نفتقِرُ في مجتمعاتنا إلى مراكز متخصِّصة في عمليات الاستقراء بأنواعها؛ لِمَا لِعلمِيَّةِ المادَّة من أهمية في قوة الدراسة ومستوى قربها من الواقع، ولو أنَّنا نتوفر على إحصاءات عِلميَّةٍ لانكشفت لنا الكثير من الحقائق التي تُمَكِّنُنَا من دراسة الواقع على أُسُسٍ صحيحة.
من القضايا التي نحتاج إلى دراستها، قضية كثرة انهدام العلاقات الاجتماعية دون أن تلقى عناية تخصصية تَبْحَث في أسبابها وما ورائها من تربويات تؤثر في النفسيات والبيئات الحاضنة لها، وقد لفت انتباهي حديثٌ عن الإمام الباقر (عليه السلام) تظهر فيه أهمية التواثق بين المؤمنين في مجتمعاتهم بحيثُ أنَّه (عليه السلام) قد علَّق عليه أمرَ القيام على السلطان الظالم والمطالبة بالحقوق!
عن بريد العِجْلِي، قال: قيل لأبي جعفر (عليه السلام): إنَّ أصحابنا بالكوفة لجماعةٌ كثيرة، فلو أمَرْتَهم لأطاعوك واتَّبَعُوك.
قال: يَجِيءُ أحَدُكُم إلى كِيسِ أخيه فيأخذ منه حاجته؟
فقلتُ: لا.
فقال: بدمائهم أبخل. ثُمَّ قال: إنَّ الناسَ في هُدْنَةٍ، نُنَاكِحُهُم ونُوارِثُهم، حتَّى إذا قامَ القائِمُ جاءت المزايلةُ وأتَى الرجلُ إلى كِيسِ أخيه فيأخذ حاجتَه فلا يمنعه”[1].
وفي حديث آخر يبين (عليه السلام) الوجه في معيارية الحالة التي يسأل عنها، فعن سعيد بن الحسن، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): أيجيءُ أحدُكم إلى أخيه فَيُدخل يَدَهُ في كِيسِهِ فيأخذ حاجتَه فلا يدفعه؟
فقلتُ: ما أعْرِفُ ذلك فينا.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): فلا شيء إذًا.
قلتُ: فالهلاكُ إذًا.
فقال: إنَّ القومَ لم يُعْطَوا أحلامهم بعد”[2]. (أي: لم تكمل عقولُهم بعد)!
من العلامات على كمال العقل إذًا، أن يُدخِلَ المؤمِنُ يده في كِيسِ أخيه ويأخذ منه حاجته فلا يمنعه.
إنَّ لهذا المستوى المتقدم من الثقة المتبادلة بين المؤمنين واقعيات ينبغي الالتفات لها بعين البحث والتدقيق، ومنها تلاشي الاثنينية بين المؤمنين، وقيام مضامين قول الإمام الصادق (عليه السلام): “المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إذا اشتكى شيئًا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده؛ لأن أرواحهم من روح الله تعالى، وإنَّ روح المؤمن لأشدُّ اتصالًا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها”[3].
هذه هي الحالة المطلوبة، ولكنَّ الذي ننتظره من مركز الإحصاء أن يقدِّم لنا مادَّة علمية تكشف عن نسبة العلاقات الاجتماعية التي هدمتها كلمةٌ منقولة ونميمةٌ معمولة!
أكاد أقطع بأنَّ النسبةَ الأكبر من مواضيع (القيل والقال) تفتقر إلى أدنى درجة من درجات البينة، وما أكثر الشخصيات التي سَقَطَتْ في المجتمع بسبب شخصٍ مُفْرَدٍ واحِدٍ تَحَدَّثَ عنها هنا وهناك بشكل سلبي، وإذا بها تسقط دون قوة على إعادة النهوض، فالتُهم ثقيلة جدًّا لا يحتملها جبلٌ وتد، فعدم الورع وقلَّة المروءة تهدُّ الجبال هدًّا بمجرَّد ظفرها بإذنٍ صاغية!
إنَّني في هذه السطور أدعو القارئ الكريم لتدبر هذا الحديث السامي، فما فيه من مضامين تجعلنا نقف حيارى ونحن نتأمل أحوالنا وما نحن عليه وفيه من ثقافات وسلوكيات مُحزِنة..
عن مُحَمَّد بن الفُضيل، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قلتُ له: جُعِلتُ فِدَاك، الرجلُ مِن إخواني يبلغني عنه الشيءُ الذي أكرهه، فأسألُه عن ذلك فيُنْكِرُ ذلك، وقد أخبرني عنه قومٌ ثقات.
فقال لي: يا مُحَمَّد، كَذِّبْ سَمْعَكَ وبَصَرَكَ عن أخيك، فإن شَهد عندك خمسون قَسَّامَة، وقال لك قولًا، فَصَدِّقْهُ وكَذِّبْهُم. لا تُذيِعَنَّ عليه شيئًا تشينُه به وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال الله في كتابه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)“[4].
يقول (عليه السلام): لا تصدِّق الثقات في أخيك، ويقول: كذِّبْ سمعك وبصرك عن أخيك، ويقول: كذِب خمسين رجلًا من الذين يُطلبون للقسم في الشهادات!
ما هي طبيعة المجتمع الذي يُنَظِّرُ له الأئمَّةُ الأطهار (عليهم السلام)؟ وأين نحن منه؟
عن مُفَضَّل بن عُمَر، قال: “قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): مَن رَوَى على مُؤمِن روايةً يُريدُ بها شَينَهُ وهَدْمَ مُروءَتِه ليسقط من أعين الناس، أخرجه اللهُ من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان”[5].
إنَّه حينما فقدنا حتَّى التفكير في الأخذ بالنُظم التربوية لأهل البيت (عليهم السلام) والسعي لإقامتها، وقَعْنَا في مهالك ثقافاتٍ دونيَّةٍ بنفوسٍ مُسْتَمرةٍ على التَعَقُّد والتأزُّم، فصرنا عن جدارة مصداقًا حيًّا لقول الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): “عُمَّالُكم أعْمَالُكم، كَمَا تَكُونُونَ يُوَلَّى عليكم”[6]. وهذا الحديث أنسبُ ما تُختَم به سطورَ المقال.
السيد محمَّد علي العلوي
28 جمادى الثانية 1438 هجرية
[1] – وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 5 – ص 121
[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 174
[3] – كتاب المؤمن – الحسين بن سعيد – ص 38
[4] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 147
[5] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 358
[6] – مستدرك سفينة البحار – الشيخ علي النمازي الشاهرودي – ج 7 – ص 435
4 تعليقات
أحسنتُم سيدنا بما طرحتم، ولعلَّ إشارة الإمام بحالة التكافل المالية هذه تقود المجتمع في مسار التنمية التي جُعل إعمار الأرض غرضها، فمن أهم مقوِّمات أي مجتمع صالح وجود التكافل الاجتماعي.. ورأسُ هذا العمل على إرساء وتقوية دعائم اللحمة الإيمانية المتفقة على إحقاق الحق – غير النسبي – ودفع المظالم (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)؛ أقول: إرساؤها بتفعيل نظام الأمر بالمعروف والحث عليه وتشجيعه والنهي عن المنكر والتذكير بعواقبه (بالحكمة والموعظة الحسنة).
وبناءً على ما ذكرتموه في كمال العقل؛ فقد روى لنا سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السلام عشر صفات من عمل بها أراح وارتاح؛ وهي:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “لم يعبد الله بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلا حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر من مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، لا يتبرم بطلاب الحوائج قبله، الذلُّ [في الله] أحب إليه من العز، والفقر [مع الله] أحب إليه من الغنى نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة: لا يرى أحدًا إلا قال: هو خير مني وأتقى؛ إنما الناس رجلان: رجل خير منه وأتقى، وآخر شرٌّ منه وأدنى، فإذا رأى الذي من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى؛ قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه”.
وأتوّج هذه المداخلة بتبيان قوتين متضادتين جعلت بمنطق الثنائيات؛ فقد روى ثقة الإسلام بإسناده عن ابن مِهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن الله سبحانه خلق العقل خلقًا عظيمًا وكرمع على جميع خلقه وهو مخلوق من نور الله عز وجل، وخلق الجهل من بحر أُجاج ظلماني فجعله ملعونا، فأودع هذين العقلين جنودًا عددهم خمسة وسبعين، وكانت هذه الجنود هي الثنائيات التي عُقدت للبشر فكانت سبب صلاحهم أم طلاحهم، أقتطف منها:
العلم من جنود العقل وضده الجهل
الخير وهو وزير العقل والشر وهو وزير الجهل.
الإيمان والكفر
الفهم والحمق
التفكر والسهو
المودة والعداوة
الحب والبغض
إلى غير ذلك من الثنائيات التي خير فيها البشر بأيهما أخذوا، فإن سادت جنود العقل كانت الدنيا بخير؛ ولا زالت الدنيا بخير لوجود الأولياء فيها والصلحاء الذابين عن الدين مردة الشياطين.
والحمد لله رب العالمين
حيا اللهُ سماحةَ الشيخ الأجل..
مداخلة مثرية مغنية، أحسنتم كثيرًا.
يمتلك شيعةُ أهل البيت (عليهم السلام) قابليات خيِّرة لا يمتلك غيرهم، ومرجعها لفاطل الطينة النوراء التي خُلِقوا منها، ولذلك فإنَّ فُرص الإصلاح فيهم قائمة بقوة، وفي تصوري لا نحتاج إلَّا لعودة واعية قوية للإرث العظيم الذي تركه لنا أهل البيت (عليهم السلام).
بارك الله فيكم -سماحة الشيخ- وسدَّد على طريق الخير خطاكم
أخوكم/
العلوي
2 رجب 1438 هجرية
بورك قلمكم سيدنا..
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ((رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنم أو سكت عن سوء فسلم))
بارك الله نورًا يسكن قلوبكم..
شكرًا لمداخلتكم الراقية
أخوكم/ العلوي
3 رجب 1438 هجرية