لا مَنَاصَ مِنْ خَوْضِ التَّجْرِبَةِ/ بقلم: الشيخ أحمد نصيف البحراني

بواسطة Admin
1 تعليق

IMG_4286(1)

الشَّيخ المفيد طودٌ شامخٌ في العلم، والشَّريفَين الرَّضي والمرتضى يتفجَّر عن جنبيهما العلم، وماذا نقول في شيخ الطَّائفة الطّوسي، والمحقِّق الخواجه نصير الدِّين، والمحقِّق الحلِّي، والعلاَّمة، وفخر المحقِّقين، والشَّهيدَين العامليَّين، والمحقِّق الكركيّ، نعم وأيُّ مرتبةٍ علميَّةٍ وصل لها المحدِّثُ الخبير صاحب الحدائق، والشَّيخ المحقِّق صاحب الجواهر، وأستاذه الفذّ الشَّيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء، أو تلميذه فريد عصره ووحيد دهره الشَّيخ الأعظم الأنصاريّ، وهكذا الكلام في المحقِّق الأصوليّ الآخوند الخراسانيّ، وتلاميذه النَّائيني والعراقي والإصفهانيّ.

لم نستَوفهم، وذلك صعبٌ، إنَّما نقضي أيَّامنا وليالينا طامحين في مراتبهم العلميَّة…

كيف وصلوا لها؟ ما هو السبيل إلى ذلك؟ أيُّ الكتب التي درسوها؟

أريد أن أكون مثلهم، نعم.. أريد أن أكون عارفًا، فقيهًا، أصوليًّا، متكلِّمًا، فيلسوفًا، لغويًّا، أريد أن أكون قامةٌ كما هم.

أتوجَّه لدراسة متنٍ أو اثنين، وقد تكون ثلاثة وأربعة وخمسة، أنتهي منها.. فلا أرى أنَّني (النَّائيني)!، لماذا؟ لقد درست جيِّدًا وكنت أذاكر دروسي، وكان يسألني الأستاذ عن فهمي فأثلج صدره، فما هو السبَّب؟

ألم تكن هذه المتون التي درسها العلماء الفحول؟ أليست هي عينها؟ لِمَ لم أصل إلى ما وصلوا له، إنَّه أمرٌ عجيبٌ!.

 

لم يكن الكلام السَّابق مختصًّا بما ذكر من جزئيَّات، إنَّه يعمُّ كل خبرةٍ لخبير، وكلّ حكمةٍ لحكيم، فالدَّرجة التي بلغها وبات ربًّا من أربابها لها سِرٌّ مكنون، قد يكون معلومًا له، وقد لا يكون، نعم قد لا يكون الخبير وذو الفنِّ محقِّقًا للعلَّة التي صيَّرته إلى ما صار إليه.

لقد قضى السِّنين الطِّوال في بناء صرحه العظيم، وتخلَّل ذلك المئات بل الآلاف من الحوادث؛ جلُّها ـ إن لم تكن كلُّها – ساهمت في قيام بنيانه وبراعة بَنانه، لم تكن دراسة عِدَّة من المتون هي المحقِّقة، لم تكن المباحثة هي المحقِّقة، لم تكن مجالسة العلماء هي المحقِّقة، لم تكن جزئيَّات يسطِّرها قلمٌ هي العلَّة التَّامة لكونه طودًا شامخًا في العلم، لقد تداخلت آلاف التجارب لتصيغ تلك القامة.

فهل يسوغ أن نسأل السَّيد محمد كاظم اليَّزدي صاحبَ العروة أنَّنا نريد أن نكون مثلكم في ليلةٍ وضحاها؟! هيهات هيهات، هذا لا يكون، حتَّى لو أرشدك لقراءة متنٍ أو اثنين أو أكثر، لن تكون (صاحبَ العروة)… قد يصيبك العجب من عدم تحقيقك عُشْرَ ما وصل له من سألته ذلك، لا تعجبْ، فهو نفسُه ليس محيطًا بالعلَّة المحقِّقة لصرحه الذي ناطح سماوات العلم والمعرفة.

هناك سبيلٌ واحد إن أردت ذلك، استهدَيته من عبارة للشَّيخ المظفَّر قبل سنواتٍ في كتابه المنطق، يقول: “ومَن مارس العلوم يحصل له من هذا الجنس على طريق الحدس قضايا كثيرة قد لا يمكنه إقامة البرهان عليها ولا يمكنه الشكُّ فيها. كما لا يسعه أن يشرك غيره فيها بالتعليم والتلقين إلاَّ أن يرشد الطَّالب إلى الطريق التي سلكها. فإن استطاع الطالب بنفسه سلوك الطريق قد يفضيه إلى الاعتقاد إذا كان ذا قوَّةٍ ذهنيَّة وصفاء نفس”.

نعم، لابُدَّ من سلوك الطريق الذي سلكه، لابُدَّ من التَّجربة، لابُدَّ من خوض الغمار التي خاضها الفقيه أو العالم؛ كي نبلغ ما بلغه ونعي ما كان يقوله، وإلاَّ سيحدِّثنا بأحاديث سنألف رَسمها وننكر عِلمَها، نعم هذه هي سُنَّة الحياة.

ففي كثيرٍ من الموارد لا يفيد أن تعطي الجواب أو تحدِّث بالخبر، ينبغي بل يتحتَّم أن تُرشد لسلوكٍ طريقٍ يكون مورثًا لما تريد إيصاله، توجَّهوا بذهنٍ صافٍ لهذا الحديث الشِّريف “عن محمَّد بن سليمان الدَّيلمي، عن أبيه قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): فلانٌ من عبادته ودينه وفضلِه؟ فقال: كيف عقلُهُ؟ قلتُ: لا أدري، فقال: إنَّ الثَّوابَ على قَدَر العقل، إنَّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرةٍ من جزائر البحر، خضراءَ نضرةٍ كثيرةِ الشَّجَر ظاهرةِ الماء. وإنَّ مَلَكًا من الملائكة مرَّ به فقال: يا ربِّ أرِني ثوابَ عبدِكَ هذا، فأراه اللهُ تعالى ذلك، فاستقلَّه المَلَكُ، فأوحى اللهُ إليه أن اصحبْهُ. فأتاهُ المَلَكُ في صورة إنسيٍّ، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا رجلٌ عابدٌ بلغني مكانُك وعبادتُك في هذا المكان فأتيتُك لأعبدَ اللهَ معك، فكان معه يومَه ذلك، فلمَّا أصبحَ قال له المَلَكُ: إنَّ مكانَكَ لَنَزِهٌ وما يصلح إلاَّ للعبادة، فقال له العابدُ: إنَّ لمكاننا هذا عَيبًا، فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربِّنا بهيمةٌ، فلو كان له حمارٌ رعيناه في هذا المَوضِعِ فإنَّ هذا الحشيش يضيع، فقال له ذلك المَلَكُ: وما لربِّك حمارٌ؟ فقال: لو كان له حمارٌ ما كان يضيع مثلُ هذا الحشيش، فأوحى اللهُ إلى المَلَك: إنَّما أثيبه على قّدر عقلِهِ”.

كان ممكنًا أن يقول اللهُ تعالى للملَكَ بأنَّ قدر عقل هذا العابد ضئيل، فلذلك أجره قليل، ولكن الباري تعالى أراد للمَلَك أن يخوض التَّجربة ويسلك السَّبيل الذي يحصِّل العلم، فلم يخبره، بل أرشده للسبيل.

وهكذا لو سأل أحدهم أستاذَه النحويَّ – مثلاً – عن كيفيَّة بلوغ المرتبة الرَّفيعة في هذا الفنِّ، فله أن يقول له مثلاً: اشرح المتن الذي تدرسه. قد لا تفهم ما يقوله حينها؛ فكيف لشرح هذا المتن البسيط أن يجعلني (نجم الأئمة الرَّضيَّ الاسترآبادي) في النَّحو؟ إنَّ هذا أمرٌ غير معقول.

ولكنَّك ما إن تشرع في الشَّرح ترى أنَّه كان توجيه لاأستاذ يستبطن الكثير، نعم، فهو يستبطن القراءة في المتون، والشروح، والحواشي، وهي بطبيعة الحال سترجعك إلى مصادر، وستذكر لك أصحاب الآراء، وستدعوك فطرتك إلى الإحاطة بما قيل في كلِّ مسألة، وعليه سترجع إلى كتب الأصحاب، وما قيل فيهم وعنهم، وفيمَ تميَّزوا، وفي أيِّ زمن كانوا، وذكر حكاياتهم ونكاتهم في مسيرتهم العلميَّة، وستعود بطبيعة الحال إلى كتب متن اللُّغة، والصَّرف، والبلاغة، وفقه اللُّغة، والأدب، بل لا مناص لك من كتب التَّفسير، وأسفار الإعراب، نعم والشَّواهد الشِّعريَّة ستتحقُّقها في مظانِّها، فستقبل على الشِّعر والشعراء، وتعرف أشعارهم وأخبارهم، سواء الجيّد منه والرَّديء، ومن يحتج بشعره ومن لا يحتج، ولِمَ ذاك؟.

هذا جزءٌ صغيرٌ، وما انطوى في إرشاد الأستاذ أعظم وأعظم، فالذي فعله الأستاذُ هو إرشادك للسَّبيل الذي يحقِّقُ لك بنيانًا مرصوصًا.

 

 

أحمد نصيف البحرانيّ

25 جمادى الثانية 1438 للهجرة

مقالات مشابهة

1 تعليق

عبد الله السعيد 25 مارس، 2017 - 6:34 ص

بارك الله لك هذه الإلماعات شيخنا الأجل:

ولعمري لقد طبَّقت المفصل – ولا غرو – ووضعت يدك على موضع جرحك، وقد تأمّلت في ما خط يراعك، وحدّثتني نفسي أن أضيف حِليَةَ تجريب، فأقول مستهديًا:

إني ومن خلال بعض مطالعاتي المقبوضة – والتي نسأل الله لها البسط – قد وقفت في ما وقفت على حقيقة مهمة لا يعدوها فحلٌ ولا فذ:

وهي جرُّ قصبة القلم، وتسطير الطروس بمحابر النور، ولكم كان صاحب المدارك خاملًا ذكره وقد حضر هو وخاله صاحب المعالم – وكلاهما كان خامل الذكر بين الجهابذة – على مولانا المقدس بمجمع فائدته وبرهانه المولى أحمد الأردبيلي (نوّر الله مضجعه وأعلى في الآخرة بنيانه) فاستُهجِنا من كونهما لا يناقشان كثيرًا..

وبعد مدّة رجع كلٌّ إلى عرينه، فكان القلم ضنينه، فخط صاحب المدارك مداركه بمنهج علمي جرَّد له الحسام فكان كجدّه صاحب روض الجنان، لا يستضيفون خبر الآحاد إلا الأعلائي منه كما هو معروف، فكان كتاب المدارك الذي دارت عليه الرحى، وأنس به الأصحاب عشية وضحى، فكان الفذُّ منهم يظهر قبضته إن فاز باستدراك عليه، وحصّل غفلة قوّمها إليه، وفي علمائنا من آل عصفور (قدس الله أسرارهم) شواهد وفرائد، و(تدارك المدارك) حسبُك!

وأما صاحب المعالم فإنّه لم يكتف بمعالمه الذي خطّ فيه مرحلة مهمة من مراحل التفكير الأصولي الجاد؛ بل راح يصول في حلبة العلم ويجول في ميادين الفهم، فمن جاث خلال ديار المنتقى عرف المدعى، ومن أمَّ روض تحرير ابن طاوس أحمد، عرف مدى الجهد الأحمد، وغيره الكثير الكثير.

رد

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.