يتميزُ المجتمع البشري بطبيعة التعايب بين مكوناته، من الأفراد إلى الدول، مرورًا بالجماعات والتيارات الأعم من الدينية وغيرها، وإن لم يكن ذلك، ففي الغالب تكون روحية الالتقاءات التكاملية بينها مفقودة، وقد يكون هذا ممَّا أشار إليه الباري تبارك ذكره في قوله: (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
لم يكن الإسلامُ استثناءً، بل هو من الكيانات التي لم تتوقف الهجمات ضدها، ولعظيم جِديَتِها فقد تحولتْ من الصراحة الاستئصَالِية كما في بداية أمر الدعوة وفي الحروب الصليبية وغير ذلك من وقائع، إلى عمليات التشكيك والتفريغ العميقين كما هو في أوجِهِ اليوم، وممَّا يقال في جولات التشكيك أنَّ الإسلام دينٌ مأخوذ من ديانات وفلسفات سابقة، ويجزمون بعدم وجود عبادة أو تعليمٍ إسلامي إلَّا وله أصلٌ في ديانات سابقة!
هذا أمر طبيعي، فهم يَرْوُونَ أنَّ فكرة (الإله) ليست إلَّا مظهر من مظاهر نظرية (البَطَل) التي لم تغب يومًا عن ثقافة مجتمع من المجتمعات، ومن نفس النظرية تتولد فكرة (المُنقذ) و(المصلح) وما نحو ذلك من أفكار تندفع من داخل الإنسان الخائف المترقب الذي يبحث عن أي فكرة تُشعِره بالأمان بشكل عام، وفي بعض الحالات تُبرِّر له خموله عن تغيير الواقع الخاطئ، ففكرة (الإله) وما يأتي في طولها، هي في الواقع -بحسب الدعوى- صياغات خيالية ترسمها النفسيات المهزومة، ولذلك، فإنَّ التعلق بها يتراجع شيئًا فشيئًا كلَّما قوي الإنسان واندمج مع الأقوياء الذين يعيشون على حاجة الضعفاء لهم. ولكنَّ هؤلاء الأقوياء، ولغاية تأكيد سيطرتهم على الضعفاء، فإنَّهم يعمدون إمَّا إلى تأليه أنفسهم، أو أن يَظْهَروا بين الناس سفراءَ للآلِهةِ أو إلى الأبطال المُنقذين، فيرتبط بهم الناس لارتباطهم بالآلهةِ أو بالأبطال المنقذين، فيبقون مسيطرين بيدٍ عليا!
“ومن هنا، نلاحظ أنَّ البطلَ يتخذ مكانةَ التقديس عند قومه من خلال إسباغ آيات العظمة عليه، سواء في حياته أو بعد موته. أمَّا عند اليونانيين فوصل الأمر حدَّ العبادة لآلهتهم وأبطالهم، فقد يكون هذا البطل واقعيًا أو من صُنع الخيال الشعبي، إذ كانت طقوس عبادة الأبطال تُقامُ عادةً حول قبر البطل، وأحيانًا تُقامُ لبعضهم في كلِّ مكان” (دراسات في الفلسفة السياسية، د. صباح حمُّودي نصيف ص45، عن الموسوعة العربية الميسرة لأشرف محمَّد شفيق غربال).
في قبال هذه الأفكار المتجذرة في الثقافة البشرية خرج فلاسفةٌ منهم الهولندي باروخ اسبينوزا بتجديد أطروحة (التخلص من الخرافة)، وهذا التخلص رهين النظر إلى المجتمع البشري بواقعية ودون تكلف. يقول: “إنَّ الفلاسفة يعالجون الانفعالات بوصفها رذائل، لأنَّهم يتصورون الناس لا بوصفهم كما هم بالفعل، وإنَّما بوصفهم كما يرغبون هم في أن يكونوا، لذلك فإنَّ عملهم السياسي ليس له فائدة تمامًا” (تاريخ الفلسفة السياسية، ليو شتراوس، ج1 ص432)، ومن هنا، صرَّح اسبينوزا برفضه القاطع للإيمان (بعصر المسيح المُنتظر)!
يقول بعضٌ: الإسلام، وكلُّ الأديان، ليست أكثر من أفكار ومعتقدات توارثها الضعفاء واستغلها الأشرار للسيطرة على الناس، ثُمَّ يسوقون الأدلة لإثبات مدعاهم، وهي في الواقع ليست أدلة؛ لأنَّ الدليل هو كاشفيةُ شيءٍ عن شيءٍ لِمُلَازَمَةٍ أو لِوحدَة مَنَاطٍ أو ما شابه من العناوين العلمية في مقام الاستدلال، وهؤلاء يُثبتون أسطورية (الإله) لِتَكرُّرِها على مَرِّ التاريخ في أديان متخالفة وبأشكال متعددة، ولكن برابط واحد، هو: حاجة الإنسان (الضعيف) إلى جهة استيثاق يُسَلِّي نفسَه بها ويُقَوِّمُ حياتَه بحسبها. ومن لا يجرؤ منهم على الاقتراب من مسألة (الإله) فإنَّه ينتقل للضرب في مسألة (الرجل المصلح المنتظر)، وإلَّا ففي الشعائر الدينية وما نحوها. وفي جميع الأدوار فإنَّ الباحث لا يَتَمَكَّنُ من الوقوف لا على مقدمة كبرى للقياس ولا على قاعدة كلية ولا أي شيءٍ مِمَّا يُعِينُ على ادعاء كون هذه الأقاويل تستند إلى (دليل)، ولذلك:
لستُ أرى أنَّ مثل هذه الأفكار تستحق التصدي (للرد)، ولكن لا غنى عن التوضيح عنايةً بالمؤمنين.
أولًا: التأصيل:
مع قطع النظر عن كون (الخالق) لهذا الوجود إلهًا أو لا، فإنَّ البرهان قائم على وجوده، ثُمَّ أنَّ البراهين تتابع فيقف العقل (الكلِّي) على غناه المطلق، فتثبت الألوهية له في ميزان العقل، ولو أنَّ المقام مقام استدلال وبرهان على وجود الخالق تبارك ذكره لما قصَّر القلمُ بما يُوَفَّق إليه، ولكنَّ المراد من هذا المقطع هو ضرورة التأصيل وتحكيم الأصول دائمًا، ومن لا يعتقد بوجود خالقٍ إلهٍ، فما الذي يُبَرِّرُ له الحديثَ عن المعتقدات المترتبة على الإيمان بالخالقِ الإلهِ؟
نعم، في مقام البحث العلمي يحقُّ للباحث إرجاع بعض المسائل للعناوين التي تناسبها، كاشتراط العقد بصيغة معينة للزواج، وأنَّ التزام هذا التشريع راجعٌ لارتباط المُلتَزِم بحقيقة وجود مُشرِّع، وإن لم يقبل بمخالفة هذا التشريع حتَّى لو كان في بلد لا يُشترط فيه العقد للاعتراف بالزواج، فيُفهم حينئذٍ بأنَّ ارتباطه بالمُشرِّع الذي يؤمن به ارتباط خاص.
ويصح أن يُقال -مثلًا-: ثبَتَ تحقيقُ المتحررين من قيود (الدين) لإنجازات علمية متقدمة على أولئك الملتزمين بأديان معينة، وقد نُرجِعُ ذلك إلى كون نظر المتدين إلى الدار الآخرة التي يعمل لها، في حين أنَّ الأول لا يعتقد بغير العمل للدنيا، فمن المنطقي أن يكون إنتاجه (الدنيوي) المرصود أكثر من المتدين الذي يعمل للآخرة طلبًا للجنة وفرارًا من النار.
ليس بالضرورة أن نقبل بهذا التحليل، ولكنَّه على أية حال لم يتعرض بالإساءة لأي طرف من أطراف بحثه.
ولكنَّه لا يصح أن يقال -مثلًا-: إنَّ اعتقاد المتدينين بالأساطير والخرافات انتهى بهم إلى أن يكونوا في المؤخرة دائمًا، أمَّا التقدميين وأصحاب العقول المنفتحة فهم القابضون على راية الإنجاز والتقدم العلمي.
لن يتأخر الردُّ القاسي عن التصدي لأمثال هؤلاء، وهذا أيضًا طبيعي ومنطقي جدًا.
ثانيًا: طبيعة الأديان السماوية:
لم تأتِ الأديانُ السَمَاويَّةُ ببِدَعٍ لا يفهمها الإنسان، ولكنَّها جاءت من السماء لسدِّ نواقص هذا الخلق، فالدين السماوي في واقعه هو اتصال يبدأ من الخالق إلى المخلوق بوجودٍ إدراكي ينطلق بعلم أول عنوانه (النقص الأصيل) الذي يتحرك بمقتضياته كلُّ هذا الوجود الممكن، وهذه الحركة الكونية المستمرة نحو الكمال هي في حقيقة الأمر حركةٌ ذاتيةٌ البرهان على وجود (الكامل)، وإلَّا لما كان لها من وجود أصلًا.
بعبارة أخرى: لا يمكن للوجود عمومًا، والإنسان على وجه الخصوص أن يُدرِك نقص نفسه مالم يكن عالمًا وجدانًا بوجود الكامل؛ إذ أنَّ معرفة النقص ممنوعة ما لم يُعلم مقابلها.
وإن قيل بأنَّ العِلْمَ عِلْمٌ بالأكمل وليس بالكامل.
قلنا: والعلم بدرجات الأكمل مضمومة لبعضها البعض ممنوعة مالم يكن الكامل معلومًا.
ومن هنا نقول:
إنَّ تَكَرُّرَ الأفكارِ في حدِّ ذاته دليلٌ على رجوعها لأصل يستدعي النظر، وفي مقام كلامنا فإنَّ الحاجة إلى الدين حاجة فطرية، وعقيدة (الإله) عقيدة فطرية، ومن ذلك يُعلم الأصل الذي ترجع إليه نظرية (البطل)، وهو فطرة الحاجة إلى قوة عظمى مُؤَمِّنة من جهة وعاقدة لمباني الأمل من جهة أخرى، وبدون الإيمان بها تتوقف الحياة تمامًا، ولذا أعتقد تمامًا بأنَّ الإنسانَ مهما كَفَرَ وتَجَبَّرَ وألحَدَ، فهو في حقيقة الأمر يحاول الهروب من الإيمان المُعْتَمِل في عمق وجدانه، وفي هذا يقول الباري تبارك ذكره (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن من عبد الأوثان أو عدَّد الآلهة هو في الواقع لم يكن مخطِئًا في أصل عقيدته المُحرِّكة، ولكنَّه ضل الطريق، ولذلك كان الأنبياء والرسل (عليهم السلام) لعصمة الناس من الضلال، بعد إرجاعهم إلى فطرتهم السليمة.
فلنطرح الآن السؤال التالي:
لماذا يبحثُ الفلاسِفَةُ والعُلمَاءُ والمُفَكِّرُونَ عَنِ الحَقيقَةِ؟
الجواب:
هم في الواقع يبحثون عن جهة استيثاقٍ تُحَقِّقُ لهم الأمان، وبعد صياغتهم لأطروحةٍ فكريةٍ مُعينةٍ، فإنَّهم يدينون بها ويتألهون لقواعدها ويدافعون عنها بالسلاح وبَذْلِ الدم، كما كان الأمر مع الشيوعيين ولا زال مع الرأسمالية العالمية وغيرها. فتَنَبَّه.
ثالثًا: مسألة التكرُّر:
إنَّه من الطبيعي جدًا أن تُتَوارث الأفكار وتُقَوَّم في مجموع المراحل التي تمرُّ بها، فما عندنا اليوم ربَّما كان عند الصينيين والهنود والفرس والأثينيين قبل آلاف السنين، ولذلك قال المشركون في قبال دعوة الإسلام كما يحكي القرآن الكريم (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ).
لا يقتصر الأمر على الأديان، فنحن لو نبحث في أفكار الملحدين والماديين وغيرهم، لوجدناها أيضًا متكرِّرة على مرِّ التاريخ البشري. هذا أمر طبيعي، ولا ينبغي أن يتحول عند بعض المؤمنين إلى مرضِ رِهابٍ نفسي.
عندما يقوم عندنا الدليل العلمي على استحباب زيارة أضرحة الأئمة (عليهم السلام)، فإنَّ وجود هذا التعليم الديني في شريعة من الشرائع الصينية أو الهندية أو الفارسية أو غيرها، لن يضر شيئًا، وعندما يُقال بأنَّ نظرية (الرجل المنتظر) نظرية سياسية احتاجها بعض المتسلطون للسيطرة بها على عقول الضعفاء، فإنَّ هذا يؤيد ما نحن عليه من حاجة البشرية إلى منقذ كامل بعناية إلهية يحسم الأمور وتكمل به الحجَّة البالغة.
يقول الله سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)، وحتَّى نفهم الدين الصحيح، ولا تنطلي علينا تفاهات المشككين، فإنَّه لا طريق لنا إلَا الكتاب والعترة.
اللهم اجعلنا من المتمسكين بحبلك المتين إنَّك سميع مجيب، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطاهرين.
السَّيد محمَّد علي العلوي
٢٩ جمادى الثانية ١٤٣٨ للهجرة
البحرين المحروسة