كبشر.. كمجتمعات، فنحن في حاجة إلى بعضنا البعض بحسب التقاطعات والاشتراكات، وهذا مما يؤكد عليه إسلامنا العظيم في عمقه الأدبي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وعلى أيَّة حال، فهذا التأكيد القرآني يأتي منسجمًا تمامًا مع فطرة الإنسان المجبولة على حبِّ التكامل والتحول من مرحلة أدنى إلى أخرى أعلى..
هذا أمر مفروغ منه، ولكنَّ الذي يحتاج إلى مناقشة هو التأثر بالآخر من منطلق استصغار النفس واستعظام الآخر على معايير غير صحيحة.
فلندقق قليلًا..
ما الذي يدخل في تكوين شخصية الفرد والمجتمع؟
هناك بعدٌ جغرافي، وآخر بيئي، وبعدٌ جيني، من بعدها تأتي الأبعاد الثقافية والأجواء الفكرية التي تولد فيها الشخصية الفردية والمجتمعية، وقد أشرتُ في مقالات سابقة إلى الاختلاف التكويني بين ابن الساحل وابن القرية، وبينهما وبين ابن المدينة، وبينهم وبين ابن الصحراء، وهكذا، فالظروف الجغرافية لها حضور قوي في تكوين الإنسان، وهذا أمر لا يتركه الدارسون في بحوثهم وتحقيقاتهم، بل إنَّهم يعتمدونها مقدِّمة (بالكسر) رئيسية عند قراءة الآخر.
نحن -كما أعتقد- مررنا بظروف استهدفت بنياننا الشخصي بشراسة غير مسبوقة، وقد انتهى بنا الأمر إلى تجاوز حقوق الذات لمصلحة بناءات جديدة أراها عشوائية بكل ما تحمل الكلمة من معنى..
هناك اليوم من يسعى لسلب بحرانية البحراني في لبسه.. في كتاباته.. في تنظيراته.. بل وحتَّى في قصائده الرثائية ومواكبه العزائية ومنبره الحسيني!
نحن نفقد ذواتنا متنكرين لأصالتنا وكأنَّنا طارئين على العلم والثقافة والأدب..
إنَّني اليوم أشعر بأنس عظيم عندَّما أجالس أحِبَّة من بعض قرى جزيرة سترة -مثلًا-، فهم لا يزالون ينطقون الستراوية الأصيلة، كما وأشعر بالفخر وأنا أستمع لخطيب بحراني يقرأ المراثي البحرانية باللهجة البحرانية التي أنتمي إليها، وكم ترتاح نفسي لشاعر منامي أو قروي يكتب قصيدة بالعامية البحرانية ذات القافية السمراء المؤتزرة بإزار أجدادنا الأصلاء..
عندما نتمسك بهويتنا، فنحن لا نعيب الآخرين ولا نستصغرهم، بل على العكس تمامًا، فالعراقي تناسبه عراقيته، والفارسي ينبغي أن يحافظ على فارسيته، وجمال الإحسائي بإحسائيته، وهكذا يسير الإنسان في حركته التطورية بما يناسب أصوله وينسجم مع ذاته فيظهر جميلًا هادئًا مستقِرًا في ثقافته وفكره وتطلعاته.
كن أنت بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى، وتذكر يا ابن جلدتي بأنَّ جذرك أصيل ضارب في عمق التاريخ، فخذ منه ابنَّ ميثم والماحوزي والعصفور، ثُمَّ انطلق بجمال سمرتك المميزة بملوحة الأرض ورطوبة هوائها..
هذا أنت.. فابقى أنت كيلا تتحول لمثال كما أصبح الغراب مثالًا.
السيّد محمَّد علي العلوي
18 شعبان 1437 هجرية
28 مايو 2016 ميلادية