يقوم الفكر الإنساني الرصين على مجموعة من الثوابت المتسالم عليها بمقتضى الوحدة الإنسانية الكبرى، وأقصد بها الجامع المشترك الأصل بين كلِّ البشر دون استثناء (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)، وقال الباري جلَّ في علاه (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، وبالرغم من وضوح مُقرَّر هذا التقرير القرآني وجدانًا، إلَّا أنَّ تيارًا ثقافيًا طرأ لنسف مقومات الفطرة التي تؤلها لحسن الالتفات والتقاط الكليات بيسر وسلاسة وتوافق، ومن جملة ما تقرَّر ضربه في أدبيات هذا التيار، الأدب، وباسم الأدب!
عندَّما عمدت الحداثةُ لمحاربة كلِّ ثابتة تستقيم عليها الأحوال، انتقلت في مراحل عملها إلى تمييع المفاهيم في تماهيات يرفضها الذوق السليم فضلًا عن الفطرة السوية، ومن سماتها الواضحة:
– محاربة الدين بالنشاط التشكيكي القائم على إنكار إمكان الوصول للحقيقة.
– الدعوة المستمرة إلى المشكِّكيَّة وتصويرها مفتاحًا للحرية وسعادة الإنسان.
– تمجيد الملحدين باسم العلم والمعرفة.
– “الثورة على القديم كله وتحطيم جميع أطر الماضي، إلا الحركات الشعوبية والباطنية”.
– “الثورة على اللغة بصورها التقليدية والأصيلة.
– الدعوة إلى عزل الدين وعلمائه.
– الهوس بالصدفة والخيال.
ومن مظاهر حراكهم العملي إطلاق التجوزات بلا أدنى قيود منطقية، فالتجوز اللفظي فنٌّ راقٍ تحرَّك في القرآن الكريم بنظام فكري واضح يقوم على إنِّيَة المناسبة بين معنيين تسوِّغ التجوز بلفظ أحدِهما في الآخر، كقوة الإقدام عند الأسد والمقدام من الإنسان، وفي العادة يكون التجوز بدافع المبالغة في تبيين الصفة.
في الحداثة يخلطون خلطًا عظيمًا بين المجاز والرمز، فيجعلون هذا ذاك وذاك هذا، والأمر عندهم سهل بعد فراغهم من تجاوز الاستقرار المفاهيمي إلى إطلاق الاضطراب والمشكِّكية.
وقد انتهوا في بعض مراحلهم إلى تشويه أجمل مقومات الحضارة الحقيقية، وهو الفن شعرًا ورسمًا ونحتًا وما نحو ذلك..
هكذا يقولون:
“نوعُ شعرٍ بلا شعور
أو نباتٍ بلا بذور
أو واقف لكن تدور”
ويقول أحدهم مستخِفًّا بالنبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله):
“منهمر من سفوح الجحيم
وقعت صريع جحيم الذرى
سألك جسد الوقت معتمر بالنبوءة والمفردات المياه
أيـها الغضب المستتب اشتعل
شاغل خطاك البال منحرف للسؤال
أقول كما قال جدي الذي ما انتهى
رأيت المدينة قانية
أحمر كان وقت النبوءة
منسكبا أحمر كان أشعلتها”
يصِفون هذا بـ(العظيم) و(العبقري).. ثُمَّ يرونه فوق الوصف فيصيحون: (مجنون)!
تروق هذه الميوعة كثيرًا لشرائح من الشباب، خصوصًا وأنَّ الحداثة تعمل بنشاط كبير على تحويلهم إلى خزائن معلومات يتوهمون أنفسهم معها مثقفين، وهناك دفع آخر على نفس الخط في اتِّجاه محاربة القوة التحليلية واللغة العلمية، فتصبح تخمة الشباب رشاقةً علميةً وتمدن!
بكل أمانة أقول:
لا أرى المدَّ الماركسي في القرن المنصرم بأخطر من ما نواجهه اليوم من إفساد صريح للمفاهيم باسم الحداثة وأخواتها.
السيد محمَّد علي العلوي
15 جمادى الأولى 1437 هجرية
24 فبراير 2016 ميلادية