في البدء، ملاحظة:
أتناول موضوعًا غاية في الضخامة، ولكنَّني أطرح منه ما أراه مهمًّا لاستثارة ذهنيَّة القارئ ودفعها للبحث والتتبع.
العامِلُ في اللغة يحدِّدُ شكلَ الكلِمَةِ (المعمُول) من حيث الإعراب، فالناصِبُ –مثلًا- (العامل) يدخل على الكلِمة (المعمول) فيؤثِّر فيها تأثيرًا مُباشِرًا لا تملك غيرَ الاستسلام له، وذلك لالتزامه الصحَّة موقعًا وزمَانًا وكيفيَّة، وبهذه العلاقة الصارمة تأخذ اللغة شكلها المفهوم.
هذه قاعِدَةٌ تكوينيَّة عامَّة، وليست اللغة أكثر من مِصداقٍ لها.
إذا ما جِئنا لقراءة مُجتمَعٍ من المجتمعات، فعلينا أنْ نسأل أولًا: هل هذا المجتمعُ عامِلٌ أو معمولٌ؟
وإذا كان عامِلًا، فأين معمُولُه؟
وإذا كان معمُولًا، فأين عامِلُه؟
هناك مَنْ أتعب نفسه على طريق قراءة واقع المجتمع البشري، وقد تجتمع الدوافع في إرادة العمل فيها، وبحسب جدِّية القراءة وقوة التنظير، برزت مجموعةٌ من الرؤى، تصدَّرتْ منها اثنتان.
الأولى: الرؤية الرأسمالية:
يرى الرأسمالي الفردَ عاملًا في المجتمع، ولأجل رفاهية هذا الأخير واستقراره وراحته، لزم إطلاق الفرد في حريَّاته بمختلف ألوانها، وأيُّ إخفاق أو انحراف أو ما شابه، فهو بنفسه يعالجه ويُقَوِّمُ ما يطرأ عليه من اعوجاج.
ليس من رؤية فلسفية واضحة تسند النظريَّةَ الرأسمالية، ولذلك كان من الصعب مناقشتها مناقشة موضوعية، غير أنَّ المطلوب في هذه السطور هو الإشارة إلى أنَّها ترى المجتمع رهين الفرد، دون نظر إلى أيِّ بعد فلسفي آخر.
الثانية: الرؤية الشيوعيَّة:
يرى الشيوعي المجتمعَ طبقاتٍ متصارعة بسبب آلة الانتاج عاملًا في الفرد، ولاستقامة هذا الأخير، كان من اللازم القضاء على الملكية، والتقديم بالتأميم العام (الاشتراكية)، وتستند الرؤية الشيوعيَّة إلى فلسفةٍ تقومُ على أساسين:
الأول: أصالة المادة.
لا شيء وراء هذه الطبيعة الماديَّة.
الثاني: الديالكتيك.
وقد أوصله كارل ماركس إلى أنَّ النقيضَ موجودٌ في صميم نقيضه، ولا خلاص إلَّا بتفعيل قوَّة الطرد حتى تستوي الأمور كلُّها في مرحلة مرتقبة.
وبذلك تميَّزت الشيوعية عن الرأسمالية، فالبُعد العلمي فيها متفوِّق فلسفيًا، ومن هنا كان إمكانُ مناقشتها، على خلاف الأمر مع الرأسمالية.
تختلف الرؤيتان في العامل والمعمول، ولكنَّهما تلتقيان بوضوح في البناء على المادة كأصل أصيل تُصَرِّح به الشيوعيَّة تصريحًا فلسفيًا، وتعمل الرأسماليَّة على وفاقه دون تخلُّف على الإطلاق، ومن غير تصريح.
حالةٌ من الدوران بين الفرد والمجتمع، بل هي حالةُ انصهار تدميري؛ فالرأسمالية تصهر المجتمع في الفرد، وتصهر الشيوعيَّة الفرد في المجتمع، ولا خروج عن نطاق هذه الدائرة.
ثمَّة رؤيةٌ أخرى تحمِل الفرد والمجتمع على أساس فلسفي آخر مرتبط بالنظرة الاجتماعية للحياة، وهو النظرة الواقعية للحياة، وهذا أساس تميَّز به الإسلام في رؤيته الكونية.
يذهب الإسلام في رؤيته إلى أمرين:
الأول: التكامل بين الفرد والمجتمع:
يرى الإسلامُ أنَّ الفرد عامِلٌ في المجتمع من جهات، والمجتمع عامِلٌ في الفرد من جهات.
الثاني: طريقيَّة الحياة وموضوعيَّة الآخرة.
يرى الإسلام أنَّ هذه الحياة الدنيا طريقٌ لحياة غيبية أخرى، وكلَّ تكامُلٍ يطلبه الإنسانُ في هذه فهو بناءٌ في تلك، كما وأنَّه يُشخِّص طبيعة التعدُّد الثقافي والفكري في المجتمع البشري بدقَّة متناهية، فيفسح له المجال من جهة، ويقيِّده بقيادة معصومة متَّصلة بالسماء من جهة أخرى، وبذلك يُحقِّقُ ثلاثية:
- التكامل بين الفرد والمجتمع.
- طريقيَّة الحياة الدنيا وموضوعيَّة الدار الآخرة.
- محوريَّة القيادة المعصومة.
وتتحرَّك هذه الثلاثية، دائمًا وأبدًا في إطار طلب (الرضى الإلهي).
يتَّضح ممَّا مرَّ، أنَّ المسألة الاجتماعية لا يمكن فصل أبعادها المادية عن البعد النفسي وضرورة التهذيب على وفق قيمٍ عاليةٍ ثابتةٍ لا تقبل التغيُّر، ولذلك فنحن كمسلمين لا يمكن لنا التوافق مع غير نظريتنا الإسلامية الكاملة، وأيُّ ميل عنها فهو وقوع في مصادمات ثقافية سمتها الأبرز التناقض وضعف الاستقامة على المبدأ.
يعمل الاقتصاد السياسي اليوم على توجيه مختلف الأدوات الثقافية بما يلائم إرادته العليا، وبالتالي فنحن واقعون تربويًا واجتماعيًا ونفسيًا تحت سلطة تلك المصالح، ومع غياب النظرية الإسلامية عن أدواتنا الإظهارية، لا نجد إمكانية الخروج بأنفسنا عن دائرة الانقياد لما يريدون.
وإن طالب القارئ الكريم بالحل، فلا إحالة لغير الاهتمام والتخطيط لنهضة إسلامية معرفية واضحة المعالم.
وهذا مشروط قبل كلِّ شيء بإيمانٍ حقيقي يستوعب الإسلام بثقليه المقدَّسين استيعابًا لا لبس فيها ولا بمقدار أنملة.
السيد محمد علي العلوي
26 سبتمبر 2015 ميلادية