عادة ما يدور الحديث حول الانشغال بالنقطة السوداء في مساحة بيضاء، فتُترك المساحة لمصلحة النقطة، وفي الغالب يُلام المنشغلون بها، ويُتَّهمون بالسلبية..
تعالوا لنبتعد قليلًا عن المساحة والنقطة، ولنتَّخذ مثالًا آخر..
مياه تناسب بسلاسة من أعلى الجبل، وفي وسطها تدور زوبعة صغيرة لا تتجاوز في مساحتها الواحد سنتيمتر مربع، فهل تنشغل بها عن سلاسة وهدوء الماء وهو ينزل من الأعلى؟
ولو عكسنا الصورة في الحالتين، فافترضنا في الأولى مساحة سوداء تتوسطها نقطة بيضاء، وفي الثانية شلال عنيف، وفي بعضه بقعة ماء هادئة..
كيف يكون النظر حينها؟
في الغالب، سوف ينشغل الإنسان بذلك الواحد سنتيمتر المربع؛ لأنَّه يُعكِّر صورة انسياب الماء، وفي الفرضين لن تتمكن بقعة الماء الهادئة، ولا النقطة البيضاء من تحقيق درجة يُعتدُّ بها من لفت النظر؛ فحالة الفوضى قوية فعلًا، ولكِنَّ قوَّتها ليست ذاتية..!
عندما يسود الهدوء والانسجام في منطقة ما، فإنَّنا نقف على مدى التناغم الحقيقي بين المخلوقات، وهذا التناغم تسكن إليه النفس وتنعم بالاطمئنان، حتى أنَّ صوت الانسان ينخفض وهو يحادث غيره في مثل تلك الأجواء، ولكِنَّه سرعان ما يصاب بالقلق بمجرد أن يلمح ما قد يُعكِّر صفوه ويُخَرِّبُ ما يعيشه من انسجام وتناغم..
تَكْتَسِبُ النقطةُ السوداءُ قوَّتها من استعداد القلق الذي يحمِلُه الإنسانُ في نفسه، وهذا الاستعداد يتحرك نزولًا وصعودًا بحسب جملة من الظروف، والنفس الإنسانية قد تكون بشفافية صوت الطبيعة في هدوئها الأخاذ، وقد تكون بقساوة زمجرتها عندما تقتلع الرياح أشجار الغاب.. وقد تكون قابلة لهذا وذاك، وتتحرَّك صعودًا ونزولًا بحسب الحال..
نحن مُتعَبُون.. مُنهَكون.. لا مبالغة في الأمر ولا سوداوية، هو واقع لا يحتمل المخادعة، وكيف لا نتعب وقد أصبح المجتمع أشبه ما يكون بساحة مفتوحة على غابة اعتاد سُكَّانها الغزو والتخريب دون أدنى إحساس بالمسؤولية تجاه الإنسان؟
نعيش بين أخوة تشعُّ المحبة منهم، فنستريح ونشعر بسمو الإنسان في دواخلنا، ولكنَّه القلق أقرب ما يكون منَّا؛ فغابة الآدميين تتمدد وقتما تشاء وكيفما تشاء وفي الاتِّجاه الذي تريد، وتمارس إفسادها منتَّعشة بما تسميه حرِّية!
سوف تبقى الغلبة للنقطة السوداء مهما تعاظم البياض من حولها، وهذا ما لم نفهم جيِّدًا معنى المواجهة..
عندما يريد الإنسان مواجهة ما (لا يُحِب) فهو أمام خيارين رئيسيين:
الأول: أن يُحصِّل أدوات القوة في هذه الحياة الدنيا، وأن لا يعتمدها إلَّا مِنْ بعد التأكد من كونها وما تحيط بها من ظروف تجعله الأقوى، وبغير ذلك فهو يُعرِّض نفسه للطحن تحت سنابك الآدميَّة المتوحِّشة.
الثاني: أن يجعل كلَّ شيءٍ في حياته تحت إمرة الحِكمة، وهذا يقتضي تحصيلها أولًا وقبل أيِّ شيء مطلقًا، فالسيف قد يكون بيد مالك الأشتر، وقد يكون بيد شمر بن ذي الجوشن، وهو السيف القاطع القاتل، غير أنَّ الأوَّل جعله تحت تصرُّف (الحِكمة)، في حين أنَّ الثاني عبدٌ للدنيا وشهواتها. وهنا لا ينفع البين والبين، فالحكمة في أعلى درجاتها، وإلَّا فلا.
الطريق الثاني هو خيارنا إن شاء الله تعالى، وهو غير ممكن بتمامه بغير اتِّصال بالله تعالى؛ فهو القائل (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)..
وقال فيما قال (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)..
الحال اليوم ليس مع نقطة سوداء، بل هي بُقعٌ تنتشر بسرعة، وأصبح بعض البشر.. وقد يكون الكثير من البشر، يجدون أنفسهم فيها، فهم يتَّخذون الفوضوية والصراخ والإزعاج منهجًا يرونه قناعة وحرِّية، وهذا وجود لن ينتهي ما دامت السيول والفيضانات وتلك الرياح التي تقتلع أشجار الغاب..
ولكن..
لن ينتهي كذلك وجود آخر منشرح الصدر بالله الرحمن الرحيم اللطيف الرؤوف، وهذا الوجود هو المواجهة في أبهى صور الابتلاء الدنيوي..
وهي رسالة هذه السطور..
(قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)
السيد محمد علي العلوي
5 سبتمبر 2015 ميلادية