كَذِبٌ مُنَظَّمٌ مقصودٌ لتضييع بوصلة الفكر والقدرة على التحليل الصائب، فهذا الكذب المُنظَّم يأتي ساترًا وحِجابًا عن قصد ليمنع الآخر عن أصل الفكرة، أو فلنقل: الخِطَّة.
عندما نرجع لبعض المفرادت التأريخة، فإنَّنا نقف على ما يدُلُّ بوضوح على إرادة تضليل الرأي العام، ومنها (وضع الحديث)، و(صناعة تزوير التاريخ)، و(البرمجة الإعلامية)، وما نحوها مِمَّا يدل على وجود تسلُّط أعلى على توجيه الفكرة أو سترها بفكرة أخرى لا واقعية لها.
وقد لا يكون هذا الأمر خافيًا على المتابع العادي لأحداث اليوم، وما تُمارَس عليها من توجيهات تضليلية هائلة بقصد إظهارها على غير ما هي عليه في الواقع، والأكثر صعوبة في الأمر، إنَّ هذا الذي يمارس التضليل يأتي بخطاب يُسفِّه فيه من يفكر بعقلية المؤامرة، ثم من بعد ذلك وبمجرد فراغه من خطابه يقوم بتضليلٍ آخر!
أمريكا تُحارِبُ الإرهاب.. ثُمَّ تكشف هي نفسها وبأذرع أخرى عن دعمها للإرهاب، وتظهر هذه الحالة الأخيرة وكأنَّها تسريب وفضح، ثُمَّ تدين قمع الحريات، وبعدها بلحظات تبيع أدوات القمع عن طريق وكلائها في العالم، وتتعمد التسريب والفضح ضدَّ نفسها، ثم نَفرَحُ بتوجيهها ضربة جويَّة للإرهابيين!
عندما يكون المخطط على مستوى عال من السرية، فهل نعي معنى السرية في دولة عظمى؟ ثمَّ هل نتمكن من تحليل معنى التسريبات المتكرِّرة؟
أهي تسريبات؟ أم هي جزء من المخطط، أو (المؤامرة)؟
أمريكا تريد إشعال نار الفتنة في اليمن، ولكنَّها توكِّلُ غيرها للقيام بالمُهِمَّة!
أمريكا صنعت التطرف الإرهابي، ثمَّ هي تقاتله، ثمَّ تدعمه!
يتحدث السياسيون عن صناعة شرق أوسط جديد، ويحلِّلون الحدث على ضوء هذه الفكرة، ثُمَّ يشيرون إلى تورط الأمريكيين مع ما يسمى بالتنظيم الداعشي، ومن بعد ذلك يحلِّلون بالبناء على أنَّ أنظمة الحكم في الخليج حليفة لأمريكا، ثُمَّ يروِّجون لنية أمريكية تتجه لإضعاف تلك الأنظمة..
عندما يعجز المحلِّلون عن رسم صورة مترابطة لمجمل الحدث، فإنَّهم يقومون بأمرين:
الأول: التركيز على مفردة من مفردات الحدث الكبير، والتي قد ينقضها (تحليلًا) حَدَثٌ آخر بعد ساعات، ولا ضير في الأمر بالنسبة لهم، طالما أنَّ الاشتغال بالمفردة.
الثاني: الإعابة على من يفكرون بعقليةٍ أُطلِق عليها (عقلية الإيمان بنظرية المؤامرة).
أمَّا الأول، فالتحليل –كما أفهمه- لا يكون تحليلًا إلا بالاعتماد على أسسٍ ونظرياتٍ عِلميَّةٍ واضحةٍ، وإذا كان ذلك، فإنَّ المُحَلِّل لا تشغله حادثة هنا وأخرى هناك، إلَّا لتسجيلها على خطِّ الحدث الأكبر، وتقويم بعض التوجيهات الخاصة أو تعزيزها وتأييدها، ولكِنَّ مفردةً لا يمكن أن تؤثر في الخط التحليلي العام الذي يعتمد على أسسٍ ونظرياتٍ عِلميَّةٍ، ما لم تكن استراتيجيَّة بمقتضى الموازين العلميَّة.
وأمَّا الثاني، فما أسموه بنظرية المؤامرة، هو في الواقع منهج قد يكون علميًّا فيما لو أُرجِع لقواعد واضحة، مثل قوله تعالى عن إبليس (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)، وأيضًا (لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا).
ثمَّ إنَّه تعالى يقول (كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ).
فهناك إذن مؤامرة كونية يقودها إبليس وجنوده من الجن والإنس، وهذا إرجاعٌ علميٌّ أكبر لبعض الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة، ولذلك هم يذهبون إلى أنَّ الحركة العالمية تقع بين قوَّتين، قوة الخير تحت قيادة السماء، وقوة الشر تحت قيادة إبليس، وكلاهما لا فعليَّة لهما إلَّا من خلال القوى التنفيذية في الأرض، وهو قوله تعالى (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)، وقوله عزَّ وجلَّ (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا).
القوة واضحة، فهي بحسب الانتصار للقيادة، فإمَّا قيادة السماء، وإلا فقيادة إبليس، وبقدر الاقتراب من إحداهما تكون النتائج..
القضية في الواقع –كما أراه- قضية تفكير ودراسة وتخطيط وتنفيذ..
تُنفِقُ الدولُ العربيةُ مجتمعةً ما يُقَدَّرُ بـ 353 مليون دولار أمريكي سنويًا على مجالات البحث العلمي، وتُنفِقُ عليها الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ منفردةً ما يُقَدَّرُ بـ 417 بليون دولار أمريكي سنويًا (لاحظوا، هنا “باء” وهناك “ميم”).
(راجع: أزمة البحث العلمي والتنمية، للدكتور فهد العرابي الحارثي، مدير مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام: http://www.asbar.com//ar/monthly-issues/994.article.htm).
ويذكر الدكتور الحارثي أيضًا “وفي إحصائيات صادرة عن الجامعة العربية في العام 2006م أنه يقابل كل مليون عربي 318 باحث، في الوقت الذي تصل فيه النسبة في الغرب إلى 4500 باحث لكل مليون شخص”!
ثم قال: “تشير التقارير الصادرة عن منظمة اليونسكو للعلوم والثقافة في العام 2008م، إلى أن الدول العربية تنفق 14.7 دولارًا على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 1205.9 دولار لكل مواطن، والدول الأوروبية حوالي 531 دولار”!!
هكذا هي..
هناك من يبحث ويدرس ويبذل المال الكثير على طريق بحوث علميَّة تؤهله لإعداد دراسات دقيقة، مقدمةً لخطوات أخرى..
إنْ أردتَ تسميتها بالمؤامرة، فلك ذلك، وإن أحببت فمخطط، ومن جهتي فهي حالة طبيعية جِدًّا لا ينبغي التحسُّس منها، سواء أسميتَها مؤامرةً أو مخطَّطًا أو غير ذلك .. فالواقع –في نظري- هو وجود من يبحث ويدرس ويخطِّط وينفِّذ، وعليك تشخيص القيادة التي يتَّبِعُها.. أهي قيادة السماء.. أو إبليس؟
من المهم هنا الالتفات إلى إنَّ هذا الذي مرَّ إنَّما هو على مستوى النظرية.. الثبوت.. عالم الواقع والحقيقة، وأمَّا على مستوى الإثبات والصورة المشوشة في عالمنا الدنيوي المُعَقَّد، فالثبوت الواضحُ فيه مجملٌ، والتَّشخِيصُ صَعْبٌ، والفَرْزُ مُسْتَصْعَبٌ، وليس الاتِّهام بكون فلانًا مع السماء أو مع إبليس بالأمر الهيِّن، فالقضايا في الدنيا مشوَّشة جِدًّا، ولا مخرج من مطبَّاتها إلَّا بالاحتياط في أعلى مستوياته.
بالمناسبة..
من الأدوات التثقيفيَّة السلوكيَّة لنظرية المؤامرة (فوبيا “الوسواس”)، وهي تُهمَةٌ توجَّه لِمَنْ يؤمن بالمؤامرة!
السيد محمد علي العلوي
30 ربيع الثاني 1436 هجرية
20 فبراير 2015 ميلادية