من أكثر الأفكار.. أو فلنقل (العناوين) تداولًا في أيام عاشوراء، عنوان الإصلاح الحسيني، ومنه يتفرع الخطباء والشعراء والمُنَظِّرُون وغيرهم في الإصلاح الاجتماعي والآخر التربوي وغيرهما السياسي ورابع في التنظيمي والعسكري، وكلِّ ما طاله البال والخاطر.
ومن عنوان الإصلاح الحسيني يدور الحديثُ الناقِدُ حول الكثير من المظاهر التي تَبْرِزُ في خصوص أيام وليالي عاشوراء، وإن كانت في غيره أيضًا، إلا أنَّ طبيعة الارتباط بالحسين (عليه السلام) في مثل هذه الأيام يُظهرها ويجعلها مادة لخُطَبِ المِنبر وقوافي الشعراء وتجاذبات المنتديات والمواقع الإلكترونية.
جلوس الشباب خارج المآتم.. ضعف مراعاة موازين العفة والحشمة عند بعض الفتيات وربما النساء.. ضعف الحضور في صلاة الجماعة وخصوصًا في الفجر التي قد ينام البعض عنها بسبب سهره بين مأتم وآخر وموكب عزاء وثان..
ثم فالحديث حول شعائر الإدماء تارة، واحترام الرأي المقابل تارة أخرى، ومؤخرًا أثيرت قضية المضائف وما يتبعها من عناوين..
تُوجه أو تتوجه الأنظار إلى مثل هذه القضايا وغيرها، وتُسلط عليها الأضواء بما يجعلها في مقدمة القضايا الحسينية العاشورائية..
السؤال: إذا كان ذلك بغرض المعالجة، فهل هي معالجة صحيحة من جهة حكمة التخطيط وبراعته (strategy)؟
للإجابة..
أولًا: الفرق بين كون الظاهرة في فرد وبين كونها في جماعة:
تختلفُ أدواتُ وطرقُ المعالجة بين أنْ تكون الظاهرةُ التي يراد معالجتها ظاهرةً فرديةً، وبين أنْ تكون مجتمعية، ففي الأولى يُحَدَّدُ المرض ثم يُبحث عن أسبابه وجذور الأسباب، والتعامل هنا مع شخصٍ فردٍ في دائرةٍ ضيقةٍ، عادةً ما يكون التعامل العلاجي فيها مُرَكَّزًا مَحْصُورًا، وقد يكون سريعًا في ضمن ضوابط معينة كما هو الحال في القصاص والحدود والتعزيرات الشرعية، ولا بأس في مثل المقام من مباشرة العمل عند طروء الخلل، فلو اكتشف الأبُ –مثلًا- أنَّ ابنه يتعاطى المخدرات، فإنَّه يأخذه في الحال إلى المصحة ويبدأ معالجة المرض.. نفس المرض، وإن كان حكيمًا فمِنَ الحكمة النظر في المقدمات التي أوقعت الابن في هذا المطبِّ، وعلى أيةِ حال فالموضوعُ واحِدٌ والتركيزُ على نفس الحالة أمرٌ طبيعيٌ.
ولكِنَّها مختلفة في القضايا العامة؛ فخروج مجاميع من الفتيات لا يراعين الموازين الشرعية في العفة والحشمة بالقدر المطلوب، ولا يعتنين بخطابات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا صريح في كون المؤثر يستوعب دوائر واسعة من المجتمع، ولو عولج فرد فالدائرة قادرة على استيعاب عشرات غيره، بل العشرات في طريقهم إليها، ومن طبيعة الظواهر العامة أنَّها تُوَلِّدُ نزعات قوية للدفاع عنها من نفس المُظهِرين لها، ولذلك فإنَّه كلما قوي خطابُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلما استحكمتْ الظاهرة وزاد انتشارها –غالبًأ- بحسب المراقبة والتتبع.
ثانيًا: عنوان الإصلاح ومضمون الاستعداء:
لا شكَّ في أنَّ النقد مطلوب؛ فهو شرط أصيل في التصحيح والتطوير والتقدم، غير أنَّه إذا ما تحول إلى خطاب إبعاد واستعداء، فهو في الغالب يُوَلِّدُ خطوطَ ضِدٍّ مُعانِدَةٍ ومُقَاوِمَةٍ، وهذا في الواقع من فِعل العزة من حيث وجودها في تموجات العقل الجماهيري الذي يُغَيِّبُ العقل الفردي في وسط تدفقاته الحماسية، ومهما تركَّزَ الجهد في عزل الفرد عن المجموع فهو أسرع إلى الرجوع وبشكل أقوى وأكثر شراسة مع أقلِّ سبب.
الملاحظ في الواقع أنَّ الخطاب المتلبس بعنوان الإصلاح يمارس عمله بأدوات غير إصلاحية، بل هي في كثير من الأحيان إفسادية تأزيمية، وها نحن نشهد قوة الفرز وعنفه في داخل نفس المُفْرَز، ومنه إلى تطور في الاستعداءات وأساليبها، حتى تحولت عشرة المحرم في بُعْدٍ من أبعادِها إلى هواجس وتخوفات من الفتنة والتنازعات!
ثالثًا: خطأ الاقتطاع في عمليات العلاج:
الحسينُ (عليه السلام) مِنَ المدينة في خروجه وإليها في عودة الركب الأبي، عبارةٌ عن منظومية فكرية تامة المفردات، وليس من الصحيح الاقتطاع منها لمعالجة ظاهرة سلبية في المجتمع؛ إذ أنَّ المريض لا يُعالج بجزء من مركب الدواء. فتأمل جيِّدًا.
ثم إنَّ تفعيل المنظومة كحراك علاجي في شهر المحرم أمرٌ مُتَعَذِّرٌ جدًّا، فالوقت ضيق وكثرة الفعاليات لا تسمح بتحريك الكل الحسيني، ومحاولته تشويه للملف.
الصحيح –في نظري- أنَّ أيَّ طرحٍ عِلاجي فمِنَ المفترض أن يكون بكامل المنظومة الحسينية، وهذا أمر ممتنع مع قلة المعرفة وضعف الإحاطة المطلوبة بقضية الوجود الحسيني.. إنها قضية كونية..
ما أراه هو ضرورة إعلان موسم حسيني آخر مع هلال ربيع الأول، ومنه تكون الإنطلاقة نحو مُعَالجَاتٍ عامَّةٍ بمُمَارَسَةِ تمام المنظومة الحسينية، وحينها لا حاجة لذكر المفردات السلبية على الإطلاق، فالمنظومة الحسينية كفيلة بإخراج كل ما لا يناسبها، وإذا ما تحولت في جوهرها إلى ثقافة عامَّة فإنَّ الموسم الحسيني الإحيائي في شهري المحرم وصفر سوف يكون مسرحًا لمخرجات العمل المنظم بين هلالي ربيع الأول ومحرم.
رابعًا: سعة دائرة الجذب الحسيني:
ما هي الدوائر المجتمعية التي يستوعبها الإحياء الحسيني في خصوص العشرة الأولى من شهر المحرم؟
نادرًا ما نجد استثناءات، فالمتدين موجود وبمختلف تياراته وتوجهاته ومدارسه الفكرية، وهناك غير المتدين أصلًا، وفي نفس دائرة الإحياء نجد مدمنَ وتاجِرَ المخدرات، وأيضًا صاحب الخمرة والقمار، وليس الشيوعي استثناءًا، فهو موجود أيضًا وبمختلف درجاته وألوانه..
في هذه العشرة يتواجد الجميع وبمقاصد مختلفة ونيات متنوعة، وفي بالي لو أنَّ مثل هذا التجمع الفريد كان تحت عيون معرفية خاصة، لكان محورًا أصيلًا في الإصلاح الذي نادى به الحسين بن علي (عليهما السلام) قبل ألف وأربعمئة سنة!
والسؤال هنا: هل يتمكن شهر المحرم من استيعاب هذه الأطياف والانطلاق بها في مشروع إصلاح عالمي؟
أقطع بنعمٍ بقدر ما أقطع بضعف أو غياب الرؤية التنظيرية السليمة والمستقيمة للوصول بالأمة إلى هذه الغاية العظمى، وهذا ما يدعو لاستنفار الطاقات العلمية والمعرفية للعمل والتنافس في هذا الميدان الحسيني النهضوي العظيم.
أعتقد بأننا قد نأثم بتركنا لهذا الواجب الخطير، وكلَّما تقادم الزمن كلَّما زاد الاثم، كيف لا والتضييع مستمر لفرصة الالتقاء بهذه الجماهير العريضة؟!
خامسًا: بالبناء على رابعًا:
أشرتُ إلى أنَّ الحسين (عليه السلام) كُلٌّ واحدٌ، غير إنَّه بين صنوف الناس مجموعة هائلة من الزوايا والعناوين، فهناك قليل العلم ضعيف المعرفة، وهذا يحضر ويشارك بقدر ما يملك من تعقلات، ولا يمكن أن يُطالب بأكثر مما يتعقل ما لم يحتَضِنُهُ مشروعٌ توعوي حكيم يرتقي به في مدارج المدرسة الحسينية.
وهناك المنحرِفُ في بعض سلوكياته، وقد يكون حضوره في المأتم أو الموكب أو حتى مع الجماهير التي تكتفي بالفرجة بدافع داخلي يعلقه بأمل التوبة التي عادة ما يسدُّ الناسُ أبوابها في وجهِهِ!
وحتى من يقصد التجمعات في عاشوراء للمغازلات وما شابه، فهو هنا، ويمكن أن يكون تحت عناية الإصلاح الحسيني، وهذا يحتاج –بالفعل- إلى قوة تنظيرية رائدة تضع الرؤى وتخطط بحكمة لهداية مثل هؤلاء.
إننا نرى كيف أنَّ من لم يستوعبهم المنبر والمجالس والموكب، قد ذهبوا في خيارات إحيائية أخرى يريدون من خلالها إثبات وجودهم، وهذا أمر في غاية الروعة وقوة الإثمار لو تمكن حَمَلَةُ الملف الإصلاحي من قراءة الحالة بشكل صحيح، ولكن –ويا للأسف- أخذ من يُنْتَظَرُ مِنْهُم الرعاية بمهاجمة هؤلاء وعزلِهم واستعدائهم، والعنوان هو: الإصلاح!
يجمع الحسين (عليه السلام) في عاشورائه ألوان وصنوف من البشر، وكل صنف يعمل في الزاوية التي تناسبه، وليس من الصحيح الدفع في اتجاه تغيير المواقع وكأنهم أحجار شطرنج، وإذا كنَّا نطلب الرقي والتصحيح والإصلاح، فبالانطلاق من المنظومة الحسينية الكاملة، وهي المسؤولة عن رفع المستويات وتطوير الثقافات، وعندها سوف يكون الإصلاح تلقائيًا وبقوة ومتانة ينشدها الإيمان.
كلمة الختام:
في خصوص العشرة الحسينية تنتشر مجموعة من الدوال في مختلف أنواع الحضور، وكُلُّ دالٍّ يأخذ نظر العاقل إلى ثقافة سابقة هي المدلولة له، ولا يقول عقل بمعالجة الدال، فهو لا شأن له غير الإظهار لما هو موجود بالفعل.
السيد محمد علي العلوي
3 من المحرم 1436 هجرية
29 أكتوبر 2014 ميلادية