من الظلام يشع نورٌ..

بواسطة Admin
0 تعليق

 معادلاتٌ قُلِبَتْ، وموازين تَخَلْخَلَتْ، وقيمٌ مَاعتْ..

هذه هي نظرتي السوداوية المتشائمة الكئيبة المتشنجة المأساوية اليائسة.. هي كذلك كما يحلو للبعض أن يسميها وهم أصحاب النظرة التفاؤلية الإشراقية المنشرحة السمحة كما يدعون، وعلى أية حال لا تهم دقتهم في التوصيف  بقدر أهمية قراءة الواقع بعيدًا عن التزويق و(التذويق)..

فلنقرأ بلا (انسداد)..

تربويًا.. أصبح من العادي والطبيعي جدًا أن يدخل الرجل الكبير مجلسًا يحتل فيه الشباب والصغار الكراسي فيضطر هو إلى الجلوس على الأرض أو ربما الخروج من المجلس، وإن طُلب من (طفل) إفساح المجال للكبير ربما قاطع أبوه وأمه وأخوه وعشيرته هذا المجلس بحجة أن رواده لا يحترمون الناس!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

يدخل (الكبير) المجلس بصينية الشاي والضيافة فلا يشعر (الصغار) بحاجة أدبية تحركهم نحو أخذ الصينية منه لمباشرة الضيوف، وإن طلب من أحدهم ذلك أتهم المجلس بأنه يشغل أبناء الناس (خدمًا)!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

من الطبيعي جدًا أن تمتلئ المجالس بأرجل على أرجل وكأن الرجال جدران أو كراسي لا احترام لهم، وإن نبهت على هذه الظاهرة السخيفة، قيل لك: وما دخل وضع الرجل على الرجل الأخرى باحترام الناس؟؟ ولا يحرك أحد ساكنًا..

انعدم الإحساس بأن الخروج من المجلس أو اللعب في الـ (bb) أو ما شابه خلال حديث أحد الحاضرين عيب كبير، وإن قلت: يا ناس عيب.. قيل لك: ولم هذا التعقيد؟ هناك من يستمع للمتحدث فلم تجبر الجميع على الاستماع؟؟ ولا يحرك أحد ساكنًا..

وتطول القائمة..

معيشيًا.. بعد أن كان العمل وسيلة وطريقًا للعيش الكريم، أصبحت الوظيفة مصدر ذل وخنوع، وعندما تقول: أفيقوا يا ناس. يأتيك النداء من صوب وحدب: اتركنا نأكل (عيشًا) يا أخي.. ولا يحرك أحد ساكنًا..

بعد أن حدد وقت النهار للمعاش والليل للراحة والسبات أصبح اليوم من أوله إلى آخره معاشًا في معاش في معاش، وإن قلت للناس: أفيقوا. قيل لك: لقمة العيش صعبة والحياة غالية. فإن قلت: دعوا عنكم الكماليات والإسراف في الزواج وفستانه وبدلته وصالته، والتبذير في المسكن وطقمه وغرفه.. دعوا عنكم هذه الزيادات. قيل لك: لم يحرم الله تعالى ذلك، فالإمام الحسن (عليه السلام) كان يلبس الفاخر من الثياب..

أقول لك: أعرض عنهم واتركهم يخوضون ويلعبون، ففهم الدين أصبح بحسب القياس الشخصي والهوائي!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

بيت.. تدفع قيمته من دم قلبك على مدى عقدين أو أكثر.. وبعدها لا يكون لك.. وإنما توهبه (وعليك المنة)، فإن قلت: ارفضوا هذه المذلة وارضوا بالقليل، قيل لك: هذه حقوقنا ويجب أن لا نتركها لغيرنا..!! الآن هذه أصبحت حقوقكم ولا تتركونها لغيركم!! طيب.. (عفيه) عليكم، ولا كلام عندي!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

الربا ربا ولو ألبسته ستار الكعبة المشرفة، ولكنه اليوم أعطي ألوانًا من العناوين المندرجة تحت قاعدة (الضرورات تبيح المحضورات) حتى تحولت الحياة إلى جبال من الديون.. والدائن مصرف (بنك) لا يعرف غير الربا لغة. وإن قلت: يا ناس كفوا. قيل لك: وكيف نعيش من غير قروض، ماذا عن السيارة والسيارتين والثلاث؟ هل نشتري مستعملة (فتطيح في جبدنا)؟ وهل نشتري صناعة (…) و(نتغربل بها)؟!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

تدينيًا.. بعد أن كانت المساجد منطلقًا للتغييرات التصحيحية والإصلاحية، أصبح الكثير منها وبقدرة (…..) المحل الأبرز لنشر الفتن والفرقة بين أبناء الطائفة الواحدة. وإن قلت: يا ناس اتقوا الله. قيل لك: الفتنة في السكوت عن صاحب المنكر (شيعي يخالفه في الرأي أو النظر). وبذلك فهو قد شرعن ضربه الآخرين بعنوان رد المنكر.. وسلام الله على رسول الله!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

المرجعيات الدينية مصدر قوة للناس ولا زالت، إلا أن الحاصل اليوم هو العمل الدؤوب على تحويلها إلى علة منحصرة للتقاتل والتناحر باسم الدين وبعنوان الشرع. وإن قلت: أهذه من أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)؟ قيل لك: أنت لا تفهم شيئًا، فهذا ليس بمرجع، وذاك محارب للحسين، وبينهما الضال.. و(يجب) علينا وبدافع من غيرتنا على الدين أن نفضح هذا الزيف. وإن قلت له: وماذا عن مرجع تقليدك؟ انتفخت أوداجه وهاجت اعصابه.. فمرجعه نائب الإمام الحجة (عليه السلام) أما الباقي فإما (…) وإلا فهم (…)!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

أراد الله تعالى للمواكب الحسينية أن تكون منطلقًا حيًا لحركات الإصلاح في المجتمع، فهي في حيويتها تجسد موقف الحق من الباطل تجسيدًا واضحًا، إلا أن هناك من يصر على تفريغها من محتواها بتحويلها إلى ظواهر (ميوعة) مشرعنة، فهذا ببنطالونه المخزي الذي يظهر لباسه الداخلي من تحته، وذاك بقصة شعره (المساميرية) وغيرهما بسلاسل فضة (حلال) تلف عنقه. وإن قلت: ألا تحترمون هذه الشعائر المقدسة؟ قيل لك: هششش وأصمت فهؤلاء ضيوف الإمام الحسين (عليه السلام) ولا يحق لك إهانتهم!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

في العفة والحياء.. لن أطرق هذا الباب، فغيرة الناس (نار ملتهبة) إلى درجة أن الأخ مستعد لقتل ذاك الذي يتجرأ على أخته فيقول لها: البسي حجابك بشكل صحيح، أو يأمرها بالابتعاد عن تجمعات الرجال والشباب، أو يأمرها بستر قدميها، أو ماشابه، بالرغم من أنه يمارس دوره الموكل به من الله تعالى، إلا أن غيرة الأخ (الملتهبة جدًا) تسمح له بأن يدع أخته بين الرجال وشعرها ظاهر في خصلاته من تحت ما يسمى بالحجاب، ورائحة عطرها على بعد أمتار، وصدرها بارز من تحت عباءة الكتف، ولكنها لا تسمح له بأن يغض الطرف عن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولذلك فهو يتوعد ويهدد ويرعد ويزبد بأنه: إن تعرضت لأختي ثانية فلا شك في أنني أدهسك تحت عجلات سيارتي. والحال أن أخته تنهش من العشرات وهو راض لا يشعر بغيرة (تدلع) رجولته!! ولا يحرك أحد ساكنًا..

قياديًا.. قالوا: (الحب الشمسي) كان جيدًا هذا العام، فقيل: نعم، لقد دعا له (….) في خطبة الجمعة..

قالوا: (عفية) والله على التوانسة فقد أرادوا الحياة فأطاعهم القدر، فقيل: نعم، لقد استلهموا قوتهم من (….) عندما خطب في الجمعة..

قالوا: موديل (المرسيدس) هذا العام في غاية الروعة والجمال، فقيل: نعم، لقد استوحى الألمان تصميمها من نسيج أفكار (….) الجمعوية..

قالوا: ماشاء الله على أولاد جارنا فهم في قمة الأخلاق والذوق، فقيل: نعم، لقد تربوا هناك عند (….) بعد كل خميس..

أما عندما قالوا: يعيش شعبنا الذل بسبب الظلم والاستبداد، فيقولون: هذا أقل ما يستحقون، فهم قد خرجوا على (….) ولذلك فهم أذلاء. ولا يحرك أحد ساكنًا..

أريد أن أسأل الآن: هل الغلبة للمعادلات المستقيمة، أم أن هذه المعادلات المقلوبة آخذة في الانتشار مستشرية مكشرة عن أنياب المآسي والمصائب؟

لا شك أن الجواب في الأثر، وهو الذي يحكيه حالنا، وإذا أردنا تشخيصه تشخيصًا دقيقًا فعلينا بالنظر إلى المتسلطين على رقابنا وتحرير سلوكياتهم معنا، أوليس الحديث النبوي يقول: كيفما تكونوا يولى عليكم؟

فلننظر إذا..

هل تباع الرذيلة في وطني؟ هل تنتشر المراقص وحانات الخمور؟ هل يُعذب العباد في السجون؟ هل تتلصص الأجهزة على مكالماتنا والعيون في مجالسنا؟ هل يفرقون بين عالينا ودانينا؟ هل تسرق الأراضي من بين أيدينا؟ هل تصادر الأموال من قبضاتنا؟

كل هذا يحصل عندنا بشهادتنا ومشهوديتنا، فليكن العلم القطعي بأننا مارسناه فمورس علينا، وقبلناه فأُنفِذَ فينا، وإن أردنا الخروج اليوم من هذه المستنقعات الآسنة التي أصبحنا متآلفين روائحها البغيضة، فأقول:

النور هناك، في الذي يرونه ظلامًا ونراه الرحم الذي يحمل نور التغيير، إنه في الانغلاق مرحليًا لإعادة البناء الثقافي لمجتمع أهلكته أجندة الاستبداد الداخلية والخارجية، وهذا الانغلاق لا يعني الجمود على واقع متحرك، بل هو يعني بكل تأكيد تسيير الواقع حسبما يراه العقل الإيماني الراشد، وذلك بتطليق التعلق بهذه الدنيا أولًا حتى نتخلص من الاحتياج للظالم حيث إن الاحتياج له يجعلنا عبيدًا له كما عبر وأوضح أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).

إن هذا الانغلاق يعني السعي بثبات على طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المستويات، وهو ممكن جدًا، ولكنه إمكان معلق على عمق القناعة وقوة الإرادة وتماسك الإصرار، وكل ذلك إنما يتولد من الحس والشعور بعظم الخطر الذي يهدد وجودنا الفكري والثقافي قبل أن يهدد هويتنا الشكلية، فإذا كانت ثقافتنا الولائية صادقة لا زيف فيها كان لازم ذلك التحرك الجاد للمحافظة عليها مهما كلف الأمر من بذل وتضحية، أما ادعاء الولاء الصادق مع التسليم لما يمارسه الباطل من تفريغ للثقافة الولائية في داخلنا، فهو ادعاء باطل لا أحسبه أكثر من مواساة لنفس داخلية اعتادت الفشل..

فلننغلق مرحليًا حتى نعيد أنفسنا للهوية الولائية الحكيمة فتكون أدوات صناعة التاريخ تحت أشرعتنا نوجهها صوب التمهيد لدولة الحق المهدوية، فالنور يشع من هذا الانغلاق المرحلي الذي يراه البعض ظلامًا..    

 

السيد محمد علي العلوي

12 صفر 1432 هجرية  

17 يناير 2011  

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.