كانوا وكنا وسوف يكونون ونكون

بواسطة Admin
0 تعليق

اليوم هو الخميس ٢٨ من شهر شوال ١٤٣١ هجرية، خرجت من الحوزة على رأس الحادية عشرة من ساعات اليوم فكان بيني وبين وقت أذان الظهر قرابة النصف ساعة، ولكن ثمة شيء كان إلي أقرب من الزمان بكثير بالرغم من أنني فارقته من عشرين سنة!!

من غير تفكير في أي من مسؤليات الدنيا تركت قيادة سيارتي إلى حبل الزمن، فأخذني..

أخذني إلى هناك حيث البوابة الخشبية وحارسها الخلوق الحاج أحمدالتايم كيبر” (time keeper) الذي يعطيني في كل صباح قطعة بلاستيكية زرقاء نقش عليها بالأحمر الرقم (1105) على أن أعيده إليه ظهراً عندما أغادر (كراج وزارة المواصلات) الذي كنت أعمل فيه ميكانيك سيارات (البيك أب) قبل قرابة العشرين سنة، وهذا الرقم يعمل عمل ساعة الحضور الالكترونية المستخدمة اليوم.

ذهبت إلى هناك بدقات قلب متسارعة وشوق كبير جداً للمرور على أرض مشيت عليها وجدران تفيئت ظلالها.. إنها أحلى الذكريات من ذلك الزمن الجميل.

وجدت الموقع بأكمله قد تحول إلى ورش ومكاتب تابعة إلى شركة النقل (DHL) ولكن بوابهم لم يمنعني من الدخول بعد أن أخبرته بأنني مشتاق للتجول في مكان فارقته منذ عشرين سنة..

اليوم تشابكت في داخلي خيوط عدة، فمن جانب ترحمت على أيامٍ أشعر اليوم جداً بنقاءها وحلاوتها وطيب أهلها، ومن جانب آخر أتذكر جيداً والدي (حفظه الله) وهو يتحدث عن أيام شبابه وكيف أنها كانت أيام نقاء وحلاوة وطيبة عندما يقارنها بأيامنا التي أراها أيام نقاء وحلاوة وطيبة، فتوصلت إلى أن من نذم أيامهم من أبناء اليوم سوف يترحمون عليها عندما يأتي عليهم زمن أبنائهم، وهكذا هي الحياة محطات تناسب جيلها فقط، أما الأجيال المتقدمة عليها فإما أن تتكيف معها وإلا فلا عزاء (للمولولين).

في زمن جدي كانت العلاقة الاجتماعية في أوج متانتها بحكم التقارب الجغرافي بين الأهل من جهة والأهالي من جهة أخرى، وهذا النوع من التقارب لا شك في أنه يعزز التآلف الروحي والألفة الأخلاقية، واستمر هذا الحال في صورته العامة إلى زمن والدي (حفظه الله) إلا أن انطلاق شركات النفط والمصانع بدأ مشوار التنغيص بشكل جزئي لم يلحظه الأولون، فمن باب المثال كان عمي (رحمه الله) يعمل في شركة بابكو، ولبعد المسافة وصعوبة المواصلات اضطر والعاملون معه آنذاك إلى العيش في سكن داخلي للشركة والعودة إلى بيوتهم في كل خميس وجمعة، وبذلك أخذ التقارب الاجتماعي وضعاً آخر يتوافق مع الحالة الجديدة، وفي مرحلة من مراحل الستينات هجم (غول) بيوت الإسكان لينتزع قلوب الأبناء من صدور الأمهات وهو متلبس في لباس ملاك جاء (ليوسع) على الناس معائشهم، والواقع أنه وسعها من جهة وضيق قلوبهم وصدورهم من جهة أخرى، وهذا موروث لازم للبعد الجغرافي بين الأهل والأهالي، وهكذا أخذت التحولات في النهش من كتف الناس حتى تحول ساكن المنامة إلى نزيل قرب الصخير، والعزيز في قريته إلى بيت إسكان في قرية أخرى لا يتمكن أهلها من تقبله؛ على اعتبار أنه دخيل أجنبي ولا يتمكن هو من العودة إلى مسقط رأسه بداعي (الضيق)، وبذلك توسعت حارات الإنحراف مع كل ردة فعل من اللاوعي تصدر من (مهاجر) لا يجد ما يستر به غربته!!

اليوم كنت أحن كثيراً إلى زمن تعودنا فيه على بعد المسافة الجغرافية بيننا وبين أهلنا، ولكننا كنا نحتفظ بيوم في الأسبوع نجلس جميعاً (البعيد والقريب) على سفرة واحدة قد تكون في بستان أو على شاطئ البحر أو في بيت أحد الكبار، هذا والبعد لم يكن كما هو اليوم، وضغط الشوارع كان أخف بكثير، لذلك نستوحش هذه الأيام التي قد لا يلتقي الأخوان فيها إلا عند مناسبة من المناسبات، خصوصاً مع وجود الهاتف النقال والانترنت، وهذا الحال هو الذي ينشأ فيه أبنائنا، وهو أيضاً الذي سوف يحنون إليه بعد سنوات قادمة حين تشتد قساوة التغرب والتغريب فيكون (الذكر بالخير) هو أتم مصاديق صلة الرحم، ولا أدري ماذا سوف يحل بالناس بعدها.

عندما نقارن إنسان الأمس وإنسان اليوم لا يمكننا تغافل الفروق الكبيرة بينهما، فالحال هو تقدم رهيب في الانجازات العلمية.. والسقوطات الأخلاقية، وكأنه تعاكس لازم لا يمكن الفرار منه إلا بدس الرأس في التراب لتحقيق أعلى درجات التوهم بأننا (بخير)!!

اليوم أنا أبحث لنفسي عن مكان بجانب والدي (حفظه الله) عندما يتأوه حسرة على الأربعينيات والخمسينيات إلى –ربما- منتصف السبعينيات، أما الآهات الجديدة فهي جديرة بي وجدير أنا بها حتى بداية الألفين، وهي مرحلة بدأ أبنائي في التفاعل معها والدفاع عنها أمام ذمي لها، وهذا إعداد جيد لرحلة الآهات التي يقبلون عليها بعد عشرين سنة قادمة، وهذه هي الحكاية.. كان الآباء وكنا الأبناء، وسوف يكون أبنائنا آباء ونكون نحن محل أبنائنا اليوم.. إنها دورة نكرر فيها نفس الأخطاء التي أدت بأجدادنا وآبائنا وبنا إلى جلسات الآهات، وهي تأخذ أبناءنا إلى حيث نحن اليوم.

إن الذين كانوا بالأمس سلموا أنفسهم بالإطلاق إلى كل شاردة وواردة دون أدنى قراءة واعية للآثار والمترتبات، بل والأكثر من ذلك أنهم يقررون حزماً وحسماً أن يتقولبوا مع الظروف وكأنهم طين بيد جبار!

وهذا ما صنعناه نحن اليوم ولازلنا به نعمل، نسلم أنفسنا للظروف المصنوعة بيد غيرنا ونتحول في اجتماعياتنا وتربوياتنا مع ما تقتضيه من غير أن نفكرمجرد تفكير- في إمكان أن نكون الصانعين لها المقررين لمصائرنا، ولذلك نضطر غالباً إلى التبرير من جهة والتخلي المستمر عن قيمنا وربما ثوابتنا من جهة أخرى.. الحال كالتالي:

يقولون: اليوم لا تمشي، واركب سيارة.

نقول: إن شاء الله عمي.

يقولون: الجو حار ولا بد من المكيف.

(حتى لو كان الجو بالنسبة لنا طبيعياً) إلا أننا نقول: إن شاء الله عمي.

يقولون: سيارة لزوجتك وأخرى لابنك وثالثة لابنتك.

نقول: إن شاء الله عمي.

يقولون: لا تنم على فراش أرضي، ونم على سرير في ضمن غرفة قيمتها 700 دينار.

نقول: إن شاء الله عمي.

يقولون: موبايل.

نقول: إن شاء الله عمي.

نظارة شمسية ماركة (فيرساجي).. إن شاء الله عمي.. موبايلك قديم.. إن شاء الله عمي.. بيتك قديم.. إن شاء الله عمي.. أنت (….).. إن شاء الله عمي.. طالب بكذا.. إن شاء الله عمي.. والي، ساير، مانع، شارك، قاطع.. إن شاء الله عمي..

وآخر (دعواهم) أن الحمد لله على نعمة أننا نملك لكل شيء تبرير وتفسير وتلميع.. إن شاء الله عمي الحمد لله..

أكاد أقطع بأن علماء الاجتماع وجدوا في حالتنا الإنهزامية (التاريخية) مادة ثرية لتسطير نظريات وقواعد (عوراء)، ولذلك أصبح علم الاجتماع علماً انهزامياً في جانب كبير من جوانبه، وبذلك كان ذنبنا ذنبين، الأول ذنب ما نصنعه في أنفسنا من جراء انهزاميتنا، والثاني تدميرنا لعقول العالمين عندما أقنعناهم بأن طبيعة الإنسان هي التخاذل والركوع أمام الظواهر الاجتماعية..

سؤال:

هل نتمكن من تغيير الواقع؟

الجواب:

نعم نتمكن ولا صعوبة في تغيير الواقع، بل هو جهاد يدعو للفخر والعزة.

سؤال:

وكيف نغير الواقع؟

جواب:

  نغير الواقع بكسر الأصنام.

سؤال:

وهل تظن كسر الأصنام أمراً هيناً؟

جواب:

هو هين كما كان في صبيحة يوم فتح مكة.

لا نحتاج إلا لفكر وقرار وعمل، وإحساس بحلاوة التضحية وبرد روحها..

السيد محمد علي العلوي

28 شوال 1431 هـ

7 أكتوبر 2010

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.