بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطاهرين
لا شكَّ في وقوع الانحراف والضلال ثبوتًا، ويدل عليه جملة من النصوص الشريفة، منها قوله تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[1]، ومنها قوله تبارك ذكره (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[2]. وإنَّما الكلام في الإثبات لارتباط الأمر بالتشخيص، ولا تدخل في محلِّ البحث الواضحات كمن يدَّعي السفارة أو النيابة أو المكاشفة، فلنحذر التشوش والتشويش.
الحاجة لبحث المسألة:
استمعنا قبل أيَّام لتسجيلٍ مرئي لأحدِ العُلماء يَتَحدَّثُ فيه عن توجهين شيعين بلسان تهمةٍ فارزٍ حادٍّ، فعلَّق أحد الإخوة بتلقائية تامَّة قائِلًا: “إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.. كل واحد من صوب، والضايعين فيها احنا” (نقلتُ كلامه نصًّا وهو باللهجة البحرانية).
ليست هذه الحادثة هي التي دعتني لكتابة هذا القال، ولكنَّها جاءت كالقشَّة التي قصمت ظهر البعير؛ إذ أنَّ المجتمع يدفع فعلًا أثمانًا باهظة، لا للخلافات الداخلية، وإنَّما للاجتهادات الخاطئة في معالجات الخلافات أو الانحرافات الداخلية، على فرض تشخُّصها. ولا يقف الأمر عن الأثمان في مظاهر التذمر وتراجع الثقة في العلماء، بل تتعدى ذلك إلى الابتعاد عن الدين، أو لا أقل عن العمامة مع البناء على أصل مستحدث هو عدم الثقة حتَّى يثبت العكس!
لا أحصر مرجع مثل هذه النتائج للخلافات والانحرافات الداخلية والاجتهادات الخاطئة في طرق مواجهتها، ولكن لا شك في كونها من أبرز مُسبِّباتها.
لذا، فإنَّ ما نحن بصدده في هذه المقالة هو خصوص بحث المواجهة المباشرة بناءً على التشخيص الموضوعي وما يلحقه من اجتهادات.
التشخيص الموضوعي:
الموضوع في الخارج بالنسبة إلى الإنسان العاقل المُدرِك، إمَّا أن يمكنه الإحاطة به من جميع الجهات، أو لا، ولا خلاف في شمول ما لا يمكن للإنسان الإحاطة به لكلِّ ما يفوق قدراته العقلية وإمكانات حواسِّه وما تقوم مقامها من أجهزة يبدعها، وما دون ذلك فممكن الإحاطة، غير أنَّ الإشكال يعود إلى كون البحث إثباتًا، أي أنَّه لا خلاف في إمكان أن يُحيط زيدٌ بما يمكن الإحاطة به، إلَّا أنَّ الإشكال في كيفية أحراز صدق الدعوى.
أليس يخطأ العاقل المدرك الحصيف في كون هذا السائل عديم اللون والرائحة ماءً، فيشربه وإذا به خمرًا مثلًا؟ نعم، لا شبهة في إعذاره لمحلِّ القطع، ولكنَّنا نُشير إلى انكشاف الواقع ومخالفته للقطع المُعذِّر.
حادثة إبعاد البرقي من قم: قال في خلاصة الأقوال نقلًا عن ابن الغضائري: “وكان أحمد بن محمَّد بن عيسى أبعده عن قم ثُمَّ أعاده إليها واعتذر إليه. إلى أن قال: “ولمَّا تُوفِّي مَشَى أحمَدُ بن محمَّد بن عيسى في جنازته حافيًا حاسِرًا ليُبرئ نفسه ممَّا قَذَفَهُ بِهِ”[3].
أمَّا أحمد بن محمَّد بن عيسى فهو محدث وفقيه من أصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد والإمام الهادي، من كبار محدثي قم، عرّفه الشيخ الطوسي بـ”شيخ القميين ووجههم وفقيههم”. وهو الذي شخَّص حال أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي من جهة روايته عن الضعفاء، فأبعده من قم، ثُمَّ أنَّه، بحسب ما نقله العلَّامة الحلِّي، اعتذر وندم.
هناك من الأعلام من لم يُسلِّم بتمام القصَّة وإن أثبت أصلها، إلَّا أنَّ ما يعنينا هو إمكان وقوع مثل ذلك، بل ومن الأكابر والوجوه.
إنَّ لتشخيص الموضوع مقامَه الخاص، ولا يلزم منه المواجهة والتصدي إن ثبتَ الانحراف أو الضلال أو ما نحو ذلك ممَّا يحتاج إلى تشخيص آخر، وقد “رُويَ في الحديثِ عنهم (عليهم السَّلام): ما كُلُّ مَا يُعْلَمُ يُقَالُ، ولا كُلُّ مَا يُقَالُ حَانَ وقْتُهُ، ولا كُلُّ مَا حَانَ وقْتُهُ حَضَرَ أهلُهُ”.
ثُمَّ أنَّه من الصعب، بل هو بالغ الصعوبة، أن يقطع العاقل بصحَّة تشخيصه من جميع الجهات، وقد شهدنا بأنفسنا من يراهم الآخرون منحرفين وخارجين عن الجادَّة، ولم يزالوا حتَّى وفاتهم يطلبون من الطاعنين فيهم لقاءً لإزالة حُجُب الاشتباهات! وكم شهدنا ما تحكَّمت الأجواء العامَّة في تشويهه، وعند الاقتراب منه رأينا العكس تمامًا!
بل وأكثر من ذلك أنَّنا رأينا من يدَّعي الفحص وعمق الاطلاع، وأنَّه قد زار من قد انتهى التشخيص إلى القول بضلاله أو انحرافه أو خروجه عن الجادَّة أو ما نحو ذلك، وحاول ثنيه وإرجاعه عمَّا هو عليه ولم يجد منه غير الصدِّ والعناد.. وإذا بلحظة تنكشف فيها كذب دعواه، وأنَّه لم يزره ولا هم يحزنون!
إنَّ للمسبقات والأجواء الإعلامية دورًا رئيسيًا في نفسية وذائقة التشخيص إلى درجة أنَّ العين تعمى عن الواقع ولا تراه إلَّا في الهيئة المفروضة.
ساوى الفقهُ الشريفُ في تشخيص الموضوعات بين الفقيه وبين من دونه من سائر المؤمنين، والحال أنَّها موضوعات للأحكام الشرعية العادية، فالفقيه يفتي غيره بحرمة الغناء، ويتكفَّل كلُّ مُكلِّف بتشخيص هذا الصوت إن كان غناءً أو لا بعد الوقوف على الضوابط المُقرَّرة، ولو أنَّ الفقيه شخَّص صوتًا على أنَّه من الغناء فتشخيصه غير مُلزِم لغيره، إلَّا إذا أفتى هو بحجية تشخيصاته على من يرجعون إليه من سائر المؤمنين، وهو نادر.
توضيح المقصد بعبارة أخرى: فلنلاحظ بدقَّة وموضوعية:
روى في رجال الكشِّي: علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام):
ارتدَّ الناسُ إلَّا ثلاثة نفر؛ سلمان وأبو ذر والمقداد.
قال: قلتُ: فَعَمَّار؟
قال (عليه السَّلام): قد كان جاض جيضة ثُمَّ رَجَعَ. ثُمَّ قال (عليه السَّلام): إنْ أردتَ الذي لم يشك ولم يدخله شيءٌ فالمقداد، فأمَّا سلمان فإنَّه عَرَضَ في قلبِهِ عارضُ أنَّ عند أمير المؤمنين (عليه السلام) اسم الله الأعظم لو تَكَلَّمَ به لأخَذَتهُمُ الأرضُ. وهو هكذا؛ فَلُبِّبَ ووجِئَتْ عُنُقُه حَتَّى تُرِكَتْ كالسلقة، فَمَرَّ بِهِ أميرُ المؤمنين (عليه السَّلام) فقال له: يا أبا عبد الله، هذا من ذاك.. بايع. فبايع.
وأمَّا أبو ذر فَأمَرَهُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السَّلام) بالسكوتِ ولم يَكُن يأخُذُه في الله لومَةُ لائِمٍ، فأبي إلَّا أن يَتَكَلَّم …”[4].
محلُّ الشاهد هو تصريح الإمام الباقر (عليه السَّلام) بعدم امتثال أبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه) أمرَ أمير المؤمنين (عليه السَّلام) حتَّى أُومِر به -كما تكملة الرواية-. فلو أنَّنا نأخذ هذا المقطع ونجمع تحته المواقف التي تكلم فيها أبو ذر بعد أمر الإمام (عليه السَّلام) له، وطعَّمنا الصياغة بإثباتها معصية لإمام زمانه ما يدلُّ عدم ضعف في عقيدته، لكان تقديمنا للرجل بما يُثبتُ في النفوس رِدَّته، وعلى ذلك تأول الأحاديث المادحة إلى المدارة وما في حكمها!
صورة أخرى: لو أنَّنا نُتبِعُ رواية الحضرمي بالروايات المادحة والمُجلَّة لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) مع التنبيه على أهمية اعتبار الطباع النفسية والمزاجية للبشر، لانتهينا إلى أنَّ الغفاري لم يعصِ الإمامَ (عليه السَّلام) وإنَّما هي غلبةُ الطبع خصوصًا وأنَّ الرجل ابن صحراء وجفاف.
إنَّ لطريقة تقديم الخطأ دورًا محوريًا في التشخيص، لاسيَّما فيما لو صار الأمر بيد العقل الجمعي الذي من شأنه تكوين رادع قوي ضد من يحاول مخالفته في فكرة أو معتنق.
إذًا، نحن في حاجة إلى إحراز التجرُّد عند التشخيص، فضلًا عن الدقة والموضوعية ومراعاة بعض الدقائق التي من شأنها أن تؤثِّر في التشخيص فتُخلُّ في موضوعيته وصحَّتِه.
محذور المواجهة بالمثل:
هذا ما رأيناه وعاصرناه وعايشناه، وعليه القواعد العلمية النفسية والاجتماعية، وهو أنَّ الشخصية التي تُوَجَّه لها تهمة الضلال أو الانحراف يلبسُها راء المظلومية ويكون شعارًا لها ولأتباعها ومريديها، ثُمَّ بعد ذاك تتحوَّل إلى تيَّار يوجِّه سهام التهمة إلى حيث الجهة التي تلقاها منها قبلًان وإلى غيرها أيضًا، وهذه هي طبيعة ردِّ الفعل ممَّن يُحصَر في زوايا الاتِّهام والإقصاء والتهميش. والنتيجة ليست إلَّا حالة من التغوُّل يُكوِّنها طرفا النزاع، ولم نشهد حتَّى الساعة حالةَ شفاء واحدة من هذا المرض الخبيث، فهو بالفعل يضرب في عمق النفس والأعصاب. لذا فإنَّ الغالب هو الفجور في الخصومة وإن تلبَّس بغيره.
مسألة حراسة الدين:
يُقال: لم تنتشر الضلالات وتيَّارات الانحراف لو لا السكوت عنها بدعوى مداراة الناس وعدم جرِّهم إلى نزاعات داخلية، وليس هذا إلَّا من مُوهِمات الشيطان. لا بدَّ للجميع من التنبه إلى أنَّ لهذا الدين حرَّسه من العلماء وأهل الفضل، وهم لا يسكتون عن المنحرفين والمروجين للضلال. وقد جاء في الكافي، عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ؛ وذَاكَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا دِرْهَمًا ولَا دِينَارًا، وإِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظًّا وَافِرًا، فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَه، فَإِنَّ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولًا يَنْفُونَ عَنْه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”[5].
أقول: هنا أمران:
الأوَّل: لا يصحُّ السكوت على الضلالات والانحرافات، فهذا مسلَّمٌ به عقلًا ونقلًا، وإنَّما الكلام في كيفية المواجهة والتصدِّي من جهة أخذ صاحب الفكرة أو الأفكار الضالة أو المنحرفة في المواجهة على فرض صحَّة التشخيص، وهذا ما دلالة عليه من الرواية الشريفة.
ولو قيل: لقد فضح الأئمة (عليهم السَّلام) أمثال المغيرة بن سعيد ومحمَّد بن أبي زينب والشلمغاني، وغيرهم..
لقلتُ: أوَّلًا: تلك تشخيصات الإمام المعصوم (عليه السَّلام) لا يرد عليها الإشكال المتقدِّم. وثانيًا: يتَّضح من الأمر الثاني.
الثاني: بالرغم من تصريح الأئمة (عليهم السَّلام) بأسماء المنحرفين إلَّا أنَّ التركيبة الإدارية آنذاك كانت واضحة المعالم من جهة تحدُّد انتشار تصريحات الإمام (عليه السَّلام) بمن يعنيهم الأمر، أمَّا سائر الناس فيأخذون من الإمام (عليه السَّلام) ومن يعيِّنه ولا يرفع اليد عن تعيينه، ويبقون مشغولين في أمور معاشهم.
على خلاف الواقع القائم اليوم؛ حيث تعذُّر السيطرة على الخبر، بل هو لا يتوقف عند المعني به متجاوزًا إلى عامَّة الناس عبر وسائل الإعلام اللحظية ليقع في يد العقل الجمعي الذي يتدرَّع بشكل مباشر بصاحب التشخيص منطلقًا به لتكوين جبهة خاصَّة.
إنَّ الفروق الموضوعية للعصر من الوضوح بمكان، ولا يمكن إغفالها في مقام تشخيص الحال.
مقتضى الحال:
لا بدَّ من مواجهة الأفكار المنحرفة حمايةً للمؤمنين عن الضلال والوقوع في الشبهات، وهذا من أهم المسؤوليات المناطة بالعلماء وطلبة العلم، وهذا لا ينحصر في الاصطدام بصاحب الفكر المنحرف.
لِمَا تقدَّم يتَّضح ما يقتضيه الحال؛ وهو:
- الحرص على عدم الوقوع في التشخيصات الخاطئة.
- تجنب استعداء الآخرين والتسبب في اصطفافات تُنهِك المؤمنين.
وبذلك يكون الظاهر هو تعيُّن مواجهة الفكرة المنحرفة بعيدًا عن صاحبها، خصوصًا وأنَّه في بعض الحالات قد لا تكون منحرفةً لوقوع خطأ في التشخيص.
استطراد:
من أكبر الأخطاء التي من آثارها تعطيل عجلة الاجتهاد خطأ الدفاع عن الفتوى أو عن رأي الفقيه وكأنَّه حقٌّ لا يأتيه الباطل، والحال أنَّ نفس الفقيه قد يعدل عن فتواه عند تجدُّد النظر أو ما شابه، وهذا هو الذي يكون عرضة للتعطل والجمود بسبب تبني الفتوى تبنيَّ تعصُّب واصطفاف.
عود إلى نظرية مواجهة الفكرة بتجرُّد عن صاحبها:
إنَّه وحتَّى مع القطع اليقيني بضلال وانحراف الفكرة فإنَّ هذا لا يُؤثِّر في تقديم خيار مواجهتها بتجرُّد عن صاحبها، وذلك لما مرَّ.
من المهمِّ أن نُشِير هنا إلى أنَّ التعرُّض لصاحب الفكرة بإسقاطه علميًا وإقصائه اجتماعيًا يُثمِر سرعةَ فرزه ووضوح الموقف منه، غير أنَّه لا يحلُّ المشكلة؛ إذ أنَّ ردوده أو ردود اتباعه سوف تتسم غالبًا بطبيعة الضد المهاجم، على العكس فيما لو كانت المواجهة بتناول الفكرة وتمحيصها موضوعيًا وسوق الأدلة على بطلانها، وإبراز الرأي الصحيح الذي يستند إلى أدلة علمية نقية؛ فإنَّ طبيعة مثل هذه الردود أن تكون نائية عن شهوات الردود التعسفية والهجومية. وإن حدثت فإنَّها لا تصمد وسرعان ما تذهب أدراج الرياح.
إنَّ لمواجهة الأفكار ومناقشتها ميزتين رئيسيتين:
الأولى: أنَّها على الصعيد العام لا تأتي ثمارها سريعًا؛ إذ أنَّ المناقشة العلمية لا اعتمال لها في غير النفوس الواعية، أمَّا المحاضير الذين لا صبر لهم فهم أبعد ما يكونون عن الطرح العلمي والمناقشات الموضوعية. ومن جهة أخرى فإنَّ للردود العلمية الوازنة أبعادَ تربوية واجتماعية تدخل في ترسيخ وبناء الوعي في الناس، وما شأنه ذلك لا تكون ثماره سريعة، بل تحتاج إلى صبر وأناة، إلَّا أنَّها مضمونة ولو في حدود خاصَّة.
الثانية: أنَّها غير مقدورة لغير العلماء وأهل النظر، ومع تَكَثُّرِها تنزوي ردود الطارئين والمستعجلين وذوي النظر الضيق والأفق المحدود.
واقع الحال:
لا شكَّ في وجود الطرح العلمي الوازن، إلَّا أنَّه ضعيف ومتراجع أمام الكثرة الكاثرة للمتقدمين، صغارًا وكبارًا من مختلف المستويات والتوجهات والنفسيات، وما أكثر مسمياتها وتكونها في الأزقَّة والميادين؛ فالأمر سهل ولا يحتاج إلى أكثر من حساب على منصَّة من منصَّات وسائل التواصل الإلكتروني، ولا ندري عن كانت لمشتبهين من المؤمنين، أو لجهة شيطانية!
إنَّ هذا الطوفان من الهرج والمرج لا يُحدُّ بغير تكثيف تكثير الطرح العلمي وفرض سطوته بتداوله وتحويله إلى مادَّة للملتقيات وما في حكمها. وهذا لا يتحصل بين ليلة وضحاها، غير أنَّ البدء به من الأهمية والضرورة بمكان وإنْ تأخرت ثمارها لسنوات.
ما دمنا نمسك بقلم أو نقف وراء لاقطة مكبرة للصوت، فلا بدَّ لنا من استشعار المسؤولية تجاه الناس؛ فللكلمة أثرها، وعلينا أن نتخلَّص من شهوات النفس لنعي موقعنا من المجتمع، فإمَّا أن نكون في مقام البناء وتهدئة النفوس وإشاعة الخير والصلاح، وإلَّا فالخوف كل الخوف أن تعمَّنا لعنات المفسدين والمتسببين في شتات المؤمنين وتشظيهم.
وهذا خطاب للعلماء..
عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): “اكْتُبْ وبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ؛ فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ فَإِنَّه يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيه إِلَّا بِكُتُبِهِمْ”[6].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
4 من شهر رجب الأصب 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………………………..
[1] – الآية 104 من سورة الكهف
[2] – الآيات من 8 إلى 20 من صورة البقرة
[3] – خلاصة الأقوال -العلَّامة الحلِّي- ترجمة أحمد بن محمَّد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمَّد بن علي البرقي
[4] – اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – الشيخ الطوسي – ج 1 – ص 47 – 52
[5] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 32
[6] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 52