بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
تكوينُ الجوِّ العلمي (2-2)
ختمتُ المقالةَ الأولى بأنَّني “أضع في المقالة القادمة إن شاء الله تعالى (وهي هذه) ما استخلصتُه من مقترحات أصحاب السماحة العلماء وطلبة العلم فيما يخصُّ الجو العلمي والمساهمة في إيجاده، برجاء أن يتفضَّل الإخوة الأكارم بالتفكير الجاد في حاضرتنا العلمية والطرق المُعينة على طريق المساهمة في تكوين الجو العلمي اللائق بالحوزة العلمية الشريفة”.
إنَّه وعلى نحو القضية الحقيقية؛ وموضوعها قابلية الانبعاث لإعادة تشييد حاضرتنا العلمية اجتمعت الآراء المطروحة في مسألة (تكوين الجوِّ العلمي) في مجموعة نقاط أحاول إخراجها من الفذلكة إلى شيء من التفصيل:
- القراءة ضرورة في موضوع النهوض العلمي:
من الملاحظ في العشر سنوات الأخيرة الانشغال الكبير والتركيز على المخرجات الشخصية والفردية دون عناية حقيقية بالتحصيل والكسب العلمي، ولذلك نرى الكاتب أو الخطيب أو المناظر يطرح أو يناقش مسألة علمية دون أن يقرأ أكثر ممَّا يتعلَّق بشكل مباشر بما يكتبه أو يقوله، وقد يجمع على وفق هذه الطريقة العشرات من الآراء، والحال أنَّها ليست أكثر من معلومات (ملتقطة)!
لا أقول الباحث، بل طالب العلم الحقيقي يقرأ العلم فيهيمن على مسائله هيمنة فهمٍ وضبط، ولذلك إذا أراد الحديث في مسألة اقتصادية -مثلًا- تجده ممسكًا حتَّى يقرأ ويقرأ ليصل إلى المسألة عن علم بمقدماتها ومبادئها.
ربَّما نتَّفق في أنَّنا نعاني اليوم ضعفًا قد أصاب الهِمم؛ فتساوى طلبة العلم بالعامَّة في القصور النفسي عن قراءة أكثر من نصف صفحة أو بضع سطور، أمَّا أن يقرأ كتابًا عِلمِيًّا فهذا اليوم -للأسف- من المستغربات، والأكثر غرابةً أن يقرأ مبحثًا كاملًا بمبادئه وما قيل في مسائله نقضًا وإبرامًا من أجل أن يقف على حدود إحداها ليكتب فيها!
ربَّما يرجع التكاسل عن القراءة الموسَّعة والمعمَّقة إلى خلل ما في آلية أو طبيعة الدرس الذي يحضره طالب العلم؛ إذ أنَّ الإقبال على هذا النوع من القراءة العلمية من مقتضيات التحفيزات والتشويقات والبواعث التي من المفترض أن يخرج بها الطالب من حلقة الدرس، ولذا قالوا:
(يُتحَصَّلُ العلم من رافدين لا يصحُّ الاستغناء بأحدهما عن الآخر؛ أوَّلهما الدرس والأخذ عن العالِم، وثانيهما التباني).
إنَّنا اليوم في حاجة ماسَّة لقراءة بعضنا البعض كطلبة علم مشتغلين بالتحصيل، وهذا متعذر ما لم نكتب ونقرأ لبعضنا البعض قراءة فهم وتكامل. والحقُّ أنَّ العالِم ما كان ليكون عالِمًا لو أنَّه لم يدخل بقوَّة وثقة في منظومة التباني العلمي بمختلف مستوياتها.
- التقريرُ مُقَوِّمٌ لثمرة الأخذ عن العالِم:
في تقرير الدروس تحقيقٌ لثلاثة مطالب مهمَّة:
الأوَّل: التقرير هو إعادة انتاج للدرس بعقلية من تلقاه، وفي ذلك توثيق للامتداد والتباني العلميين من الأستاذ في طلبته.
الثاني: التأكيد على علو اعتبار الأستاذ عند طلبته، وهو في حدِّ ذاته عاملٌ تشجيعي مهم على المزيد من الجد والعطاء.
الثالث: توسعة دائرة المتلقي لتشمل غير الطلبة المباشرين، بل ويدخل فيه أساتذة وأقران للأستاذ ما يساهم في تكوين أجواء علمية واقعية يعيشها العلماء وطلبة العلم.
لا شكَّ في أنَّ لمثل هذه النتائج مخرجات مهمَّة لا نتصور منها غير الخير والصلاح.
- تعريض الفهم للمناقشة والنقد:
جاء في عيون الحِكَم والمواعظ للواسطي عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “اضربوا بعض الرأي ببعض يتولَّد منه الصَّواب”، وعنه (عليه السَّلام) في نهج البلاغة أنَّه قال: “من استقبل وجوه الآراء عَرَفَ مواقعَ الخطأ”، وهكذا فإنَّ المناقشة والمباحثة والنقد طرقٌ ناجعة دائمًا لتصحيح المسارات وإنضاج الرؤى وبلورة الأفكار عند ذوي النفوس الطيبة والعقول الراجحة.
إنَّ الدعوةَ إلى مناقشة ما يُطرح من بحوث وآراء هي في الواقع دعوةٌ للارتقاء والخروج من الدوائر الصغيرة إلى الأكبر، وعن التَسَقُّف المحدود إلى آفاق رحِبة، وهذا من أهمِّ ما يُصِرُّ عليه ذوو الهِمم العالية التطلعات الكبيرة؛ لعلمهم بأنَّ ترقيهم العلمي يتوقَّف على مدى تعريض آرائهم للمناقشات والنقد.
عندما ندعو إلى الاهتمام بنشر التقريرات والبحوث والمقالات العلمية التخصصية الحوزوية فالغاية الكبرى من ذلك تعريضها للمناقشة والنقد بما ينتهي بالساحة العلمية إلى واقع من الإثراء المطلوب دائمًا لتكوين الأجواء العلمية.
من جهة أخرى، على طلبة العلم الانعتاق من شرانق التجبين وسلاسل الإقعاد عن المناقشة وإبداء الرأي العلمي، وهذا لا يعني الجرأة المذمومة والجسارة الممنوعة، بل يعني التحول بنفس المناقشة وإبداء الرأي إلى جلسة بين يدي العالم الذي يناقشون رأيه أو ينقدون فكرته، وإذا ما غضب أو أخذه الضيق فهذا، لا شكَّ، لخللٍ فيه؛ إذ أنَّ العالِم يسعد ويُسر قلبه بطلبة العلم وهم يتصدون لمناقشته ونقد آرائه؛ أوليس الصواب هو الغاية المطلوبة؟ فهذا إذًا واحدٌ من أهم طرقها. مع التأكيد والتذكير دائمًا بضرورة الأدب والتواضع والابتعاد عن كلِّ ما قد يجرُّ إلى جرأة أو تجاسر.
كلمة في خصوص مسألة (التبليغ):
كثُرَ في العقود الثلاثة الأخيرة، وبتركيز أكثر في العقد الأخير استعمال كلمة (التبليغ) واهتمام العلماء بالتأكيد على تخريج طلبة علمٍ متميزين بمهارات التبليغ، وبذلك تحدَّد عندنا السقف بهذا العنوان، حتَّى أنَّ النابه من الطلبة يكتفي بإعادة تدريسه لأواخر الكتب في الفقه والأصول، وإن تقدَّم قليلًا فببحث مختصر مغلق يطرح فيه بعض المسائل.. ولا شيء أكثر!
نعم، مسألة التبليغ مهمَّة، ولكنَّ المُبلِّغ وجود طبيعي يترشَّح عن مسالك الفقاهة؛ وذلك إمَّا بأنَّ يقوم طالبُ الفقاهة بالتبليغ في بعض مراحل تحصيله، أو أن يتوقَّف عن طلب الفقاهة ويكتفي بالعمل التبليغي، فيبقى الأصل هو أن يكون الالتحاق بالدرس الحوزوي لغاية فاردة هي الفقاهة لا غير.
إنَّ من ثمرات هذا التأصيل والتأسيس تحقيق حالة من المجانسة بين عقليات طلبة العلم بمختلف مستوياتهم؛ إذ أنَّ من يتوقف عن طلب الفقاهة ويتجه للتبليغ سواء عن طريق الخطابة أو إمامة الجماعة أو ما نحو ذلك فهو في الغالب قد تحصَّل على رصانة العقلية الخاصَّة وحكمة شخصيتها.
أختم مقالتي هذه بقصَّة تُبين شيئًا من آثار ما تدعو إليه:
قال الشيخ علي بن الشيخ حسن البلادي البحراني (علا برهانه): “حدَّثني بعضُ الصالحين الثقات من أهل البحرين عن سلفهم الأقدمين، أنَّه كان في الزمن القديم في البحرين أنَّ الرجل من أهل السوق والتجَّار يكون عنده العبد المملوك فيراه ليلة من الليالي ربَّما غفل عن صلاة الليل لنومٍ أو غفلةٍ، فيُصبِح ويأمر الدلَّال أن يبيعه، فيقول له جيرانُه من أهل السوق: لِمَ تَبِع مولاك ولم تر منه إلَّا الصلاح والطاعة؟
فيقول لهم مولاه: إنَّه البارحة لم يُصلِّ صلاة الليل، وأخاف أن تكون له عادة، فرُبَّما يقتدي به بعضُ العِيال فلا يُصلِّي صلاة الليل. فإذا سمعوا (أي: التجَّار وأهل السوق) ذلك منه صار (أي: العبد) عندهم عيبًا، فيأمرون بإخراجه من البحرين وبيعه في غيرها من البلدان” (أنوار البدرين -ص50-).
إنَّ لمثل هذه الحالة واقعًا أنتجها، وهو القاعدة العريضة لفقهاء شيدوا وشغلوا الحاضرة العلمية العريقة في البحرين، وها هي لؤلؤة المُحدِّث البحراني وأنوار الشيخ البلادي، وغيرها الكثير جدًّا من الإجازات الروائية توثِّق لنا ذلك الواقع الرَيَّان بمجالس العلم والمباحثة، وبالمؤلَّفات العلمية التخصصية عزيزة النظير.
قلنا في المقالة الأولى: ” ليس الأمرُ ترفًا، ولا هو مجرَّد مشتهيات تتمناها النفس؛ بل هو أمر يرجع إلى تأمين مصير الأمَّة وحِفظ استقرار المؤمنين؛ والوجه في ذلك أنَّ السَّلامة الذهنية والنفسية للناس عادةً ما تُحقِّقُها حِكمةُ القادة وثراء تجاربهم في هذه الحياة، وكلَّما كانوا على مستويات أرفع وأعلى من العلم والمعرفة والحكمة والنباهة كان الناس في رغد من الاستقرار والأمن وجمال الثقة بالنفس؛ وليست بخافية على الفضلاء وفرة الأحاديث الشريفة في فضل العلماء وكونهم من أهم الجهات التي إن سلِمت سلِم الناس”.
وكتبتها ليلة ذكرى استشهاد جدَّتنا وسيدتنا الزهراء البتول فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها)، راجيًا منه سبحانه وتعالى التوفيق لما فيه الخير والصلاح.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
12 جمادى الأولى 1442 للهجرة
البحرين المحروسة