انحصر الاهتمام بالأسناد في دراسته للوقوف على مدى صحَّة أو ضعف المنقول، حديثًا أو واقعةً، أو كتابًا، وقد انقضتْ هذه المرحلة بعد أن حُفِظتِ الأحاديثُ في كتبٍ مُحقَّقةٍ معروفة، ولم تعد الحاجة، إجمالًا، إلى أكثر من الجهود التحقيقية الشخصية بالمقابلة بين الكتب لضبط الكلمات مادَّةً وهيئةً، وهذا ما سعيتُ لبيانه في مقال (التَكَوُّن التحقيقي في شخصية مُتَحَمِّل الإجازة الروائية).
يردُ هنا سؤال، هو:
اليوم، وبعد أن حُفِظَتِ الأحاديث والكتب، فما معنى أن يُجازَ أحدٌ في الرواية؟ بل لِمَ تُطلبُ الإجازة؟
عندما نتأمَّلُ ما كَتَبَهُ بعضُ العُلَمَاءِ في مقدِّمات كتبهم الحديثية، نَقِفُ على عِبَارَةٍ يتكرَّرُ مَضْمُونُها، وهو أنَّهم ما نقلوا عن غير الثقات من مشايخهم وما صحَّ مِنْ أحاديث العِترة الطاهرة.
قال الشيخ ابنُ قولوليه (نوَّر اللهُ مرقده): ” وقد عَلِمْنَا أنّا لا نُحيطُ بجميع ما رُويَ عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكنَّ مَا وَقَعَ لنَا مِنْ جِهَةِ الثقَات من أصحابنا ـ رحمهم الله [برحمته] ـ، ولا أخرجتُ فيه حديثًا رُويَ عن الشُّذَّاذِ مِنَ الرِّجالِ، يُؤثَرُ ذلك عنهم (عليهم السلام) المذكورين غير المعروفين بالرّواية؛ المشهورين بالحديث والعلم، وسمَّيتُه (كتاب كامل الزّيارات)”[1].
ناقش جملةٌ من أكابرنا ما يُحتَملُ أن يكون مرادًا ومقصدًا من مثل هذه التصريحات، وما يستقربه النظر القاصر هو اكتفاء جملة من المتقدمين بالرواية عن الثقة من مشايخ الرواية والإجازة في تحقُّق الاعتبار لما يروون، إلَّا أنَّ القول والقطع بالصدور لا يتمُّ إلَّا بعد مراحل من التحقيق وجمع القرائن، وما إلى ذلك من مثبتات.
إذا صحُّ ذلك، فإنَّ الرواية عن الإجازة مظهرٌ مُعتبر للرؤساء الذين يقولون باعتبار المنقول، حديثًا أو واقعةً أو كتابًا. أي أنَّ الروايةَ عن إجازةٍ قطعٌ بكون المروي مادَّةً علميةً معتبرةً.
إنَّ الشيخ الكليني (علا برهانه) في روايته عن مشايخه يُبرِزُ وحدةً علميةً موضوعيةً بينه وبينهم، فيُضافُ واحِدٌ، وهو نفس الكليني، إلى مجموع القائلين باعتبار المنقول عن مشايخ الإجازة، وإذا روى عن الشيخ الكليني مُحدِّثٌ مجازٌ منه، فقد أُضيف إلى المجموع آخر.. وهكذا..
من هنا، نرى أنَّ حصر الإجازة الروائية في عنوان (التبرك بالمعصوم -عليه السلام-) فيه الكثير جدًّا من الظلم الشديد لأعظم المشاريع الحضارية الفكرية التي أبدعها المسلمون، وكذا حصرها في حفظ الأحاديث والكتب؛ فالإجازة حفظٌ للوحدة الموضوعيةِ الثقافية والفكرية.
عندما يُحدِّثُ مُجازٌ في زمننا المُعاصِر، ويقول: بإجازتي عن مشايخي الذين تتصل أسنادهُم إلى العلَّامة المجلسي، أو الشيخ الحرِّ العاملي، أو غيرهما، فإنَّه بهذه العبارة يُشير إلى وحدته الثقافية والفكرية مع من أجازه، وتسلسلًا إلى آخر واحدٍ من مشايخ الإجازة، وبهذه الوحِدة يكون قائِلًا بمقالتهم، وهي اعتبار المادَّة العلمية الواقعة موضوعًا للإجازة.
ثُمَّ أنَّه في حال كان هذا الاعتبار العلمي تامًّا، فإنَّ الإجازة الروائية تكون مظهرًا حقيقيًا لتبانيات تعاقبية موضوعها القوَّة الاعتبارية للأحاديث والكتب المُجازة، وهذا، في حدِّ ذاته، من أهم العوامل القادرة عن جدارة على تحمُّل مسؤولية خلقِ أرضية فكرية تفاهمية واسعة النطاق في بُعدَي العمق الثقافي والامتدادات الجغرافية.
لذا، فإنَّ المُجاز اليوم يكفي أن يذكر ذلك، أي أنَّه يروي أو يُحدِّث إجازةً، دون حاجة إلى ذكر السلسلة. واعتقد بضرورة التأسيس إلى هذا النحو من أبعاد الإجازة الروائية وممارستها نظريًا وعمليًا، بشرط أن يكون حَمْلُ الإجازةِ عن إحاطة علمية وازنة ما يجعل لعِبَارةِ: (أروي إجازةً) اعتبارًا عِلميًا خاصًّا لا يمكن تجاوزه.
يُرجى من مثل هذا التأسيس أن تكون الإجازات الروائية اليوم سياجًا علميًا حيًّا، يحمي ويصون الحديث الشريف ضد نيران التشكيكات التي أحرقت جوانب مهمَّة من الطمأنينة والاستقرار النفسيين عند شرائح من المؤمنين، وجعلت كتبنا الحديثية المحفوظة بلطف وعانية الله تعالى من أهون ما ينتهك حُرَمَه المستهترون والمغرورون؛ فإنَّ روايةَ العالِم الفلاني اليومَ إجازةً يعني ظهور القوَّة في توارث الاعتبار العلمي المتين للمروي عن دراية وإحاطة، وهذا ممَّا نحتاج إلى التنَبُّه إليه جيِّدًا.
قد يُقال: هل يمكن الوقوف في كتب العلماء على ما تطرحونه هنا؟
فأقول: إنَّ ما أطرحه قراءة ومُحَاولات لِفَهم مَقَاصِد المتقدمين من أكابر الطائفة، ومن جِهَةٍ أُخْرَى هو دعوة لخُطوات تطويرية لا تخرج عن الأطر والقوانين العامَّة للإجازة الروائية. وإن لم نجد تصريحًا في كتب العلماء لما نطرحه هنا، فهو لا يعارض ما عليه العلماء، وليست الدعوة لأكثر من الإمساك بما تركه لنا العلماء والأكابر على مرِّ التاريخ، والانطلاق به إلى بناءات جديدة وتجديدية مُضبطة ومحكومة بما رسمه ووضعه نفس علمائنا وأكابرنا.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
3 ربيع الثاني 1441 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………………….
[1] – كتاب كامل الزيارات – ابن قولوليه – المقدمة