بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآلهِ الطيبين الطاهرين.
المعمل الثقافي في العِراق
المنبر والحاجة إلى مراكز للدراسات والبحوث
لم يهدأ العِرَاقُ قطُّ؛ فهو في أحسن أحواله مهدٌ لدعوات فكرية جديدة، وفي أسوئها مطمعٌ للقوى السياسية الكبرى، وبين هذا وذاك لا يخرج العِراق عن لواحظ اليد السياسية المبسوطة ليكون عاصِمَةً لها!
إنَّه وبالإضافة إلى العمق التاريخي الحضاري للعِراق، نقفُ على تميزِ موقعه الجغرافي من حيثُ الربط بما جعله جِسرًا أرضيًا بين قارات العالم القديم، وهذا من أهمِّ عوامل الجذب الذي عرَّضه للكثير من المشاكل الجادَّة على مرِّ التاريخ.
يقعُ العِراق مركزًا وجوديًا حقيقيًّا لثلاثة محاور حضارية وسياسية واقتصادية، هي:
محور (إيران – سوريا).
محور (إيران – الأردن).
محور (تركيا – شبه الجزيرة العربية).
وبذلك كان محلًّا لجمع الثقافات ونشرها، وكأنَّه معملٌ يستقبِلُ موادَّ الفِكرِ فيستوعبها، ثُمَّ يبُثُّها في مختلف الأقطار المُحِيطة، لذا، لم يتمكَّن أحدٌ على مرِّ التاريخ من تجاوز العِراق، ومن هنا تأتي أهميةٌ يستشعرها المُفَكِّرون، موضوعها تتبع أخبار العِراق وما يجري فيه من تحولات وتقلبات ثقافية وفكرية؛ فالأمر -كما اتضح- لا يخصُّ العِراقَ وشعبَهُ فحسب، بل يتجاوزُ إلى مختلف البلدان والأقطار، وخير مثال على ذلك انتشار الأحزاب في الدول المحيطة امتدادًا لوجودها الأصل في نفس العِراق، ومنها حزب الدعوة الإسلامية، ومنظمة العمل الإسلامي، وغير ذلك..
من هنا، ينشغلُ البالُ بما يحدث في العِراق اليوم من تدافع ثقافي وتثاقفي هائل، برجاء أن ينتهي إلى تجدُّدٍ حضاري حقيقي، يُعيدُ للمنطقة هويتها الفِكرية بعد عقود وعقود من التغريب الاستبدادي العنيف عن سبق إصرار وترصد من القوى الطامعة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.
ممَّا يلفت الانتباه في هذا الخصوص الحالة المنبرية الخِطابية التي يعيشها العِراق؛ فمن الملاحظ انجذاب الناس -بشكل منقطع النظير- للمنابر المنتشرة بقوَّة في أرجاء العِراق، والغريب أنَّ الأعداد التي تحضر المنابر تُقدَّر في أضعف الحالات بالمئات، وإلَّا فهي عادة بالآلاف خارج المواسم المعروفة مثل عشرة محرَّم وليالي شهر رمضان الكريم، ومن جهة النسبة والتناسب، لا تقلُّ المنابِرُ في كمِّها عن هذه الأعداد الهائلة من المستمعين. ومن الملفت أيضًا، تَوَجُّه الحاضرين للخطيب بانشداد وانتباه، ولا يَفْرُقُ في ذلك -كما لاحظتُ- العامِلُ البسيطُ عن المُثقَّفِ الجامعي، ولا طالِبُ المدرَسَةِ عن الكَاسِبِ، فالجميع يعيشُ حالةَ الانجذاب للمنبر بشكل ملفت.
إنَّه والحالُ هذه، لا بدَّ، وبسبب معادلة الفاعل والقابل، والتأثير والتأثر، من تشَكُّلِ مساحات ثقافية وفكرية في المجتمع العِراقي، ومنه، إلى وفي، مجتمعات الدول المُحِيطة، وهذا ما يستدعي التفكيرَ الجادَّ في ضرورة وجود مراكز للدراسات والبحوث تعني تخصُّصًا برصد وقياس ومقارنة دور المِنبر في التشكلات والتطورات والتحولات الثقافية في المجتمع العِراقي.
سؤال الفِكرة:
هل يتناسب، كمًّا وكيفًا، التنامي الثقافي في المجتمع العِراقي مع الحالة المنبرية القائمة فعلًا؟
للإجابة على هذا السؤال فنحن في حاجة إلى رصدِ التالي:
- عدد المساجد والحسينيات في كلِّ العِراق.
تحافظ المساجد والحسينيات على الظاهرة الاجتماعية الإسلامية بما يقيم في المجتمع رادعًا عن الخروج على القيم العامَّة للإسلام، وكلَّما تكاثف الحضور فيها، ازدادت قوى الردع، ويُعدُّ ذلك من مقدِّمات التهيؤ النفسي والذهني عند الناس لاستقبال الخطاب المستند إلى هذين الكيانين المهمين في الإسلام. وقد اتَّخَذَتِ الحسينيات مكانَةً في خصوص هذا المجال الثقافي والمعرفي؛ لما امتازت به من القيام على خلفية عقائدية وعاطفية حيَّة أنتجها الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) في كربلاء، فكانت مقصدًا لكلِّ فِكرٍ حرٍّ ينشدُ الحرية، وإن لم يكن شيعيًا، بل ولا مسلِمًا.
تأتي أهمية هذا الرصد من أهمية الوقوف على المَواطن الجغرافية التي تصلح إلى أن تكون منطلقًا للخطاب التثاقفي، كما ولِما لها من موقعية في معادلة التأثير والتأثر نظرًا إلى نفسها، وإلى الطرف المُخَاطَب من مختلف جهاته.
- تَوزُّع المساجد والحسينيات على محافظات ومُدن العِراق.
فإنَّ موقع الخطاب إذا كان النجف أو كربلاء، يختلف من حيث القوَّة والتأثير عنه إذا كان الكاظمية -مثلًا-؛ والسبب في ذلك المكانة العلمية واحتشاد العلماء وطلبة العلوم الدينية في مدينتي النجف وكربلاء، كما وأنَّ الخطاب الصادر من منابر الجامعات الأكاديمية له خصوصياته، والخطاب في المواقع المختلطة بين الشيعة وغيرهم يتَّسم في الغالب بطابع التقارب والتصالح مع الآخرين.
ومن هنا، تنشأ الحاجة لهذا الإحصاء؛ فيقف الباحثون على النقاط الجغرافية للتأثير وسماتها وما نحو ذلك.
- عدد السكان، ونسبة الشيعة منهم، والتوزيع الجغرافي.
لمحلِّ الناس من عملية التموجات التي تحمل الخطاب وتحليله وإسقاطاته، وهذا أمر في غاية الأهمية لجهة رصد مواقع الانعطافات في الفهم، والتحريف في النقل؛ فإنَّ الخطاب الذي يصل إلى منطقة شيعية عبر مناطق ذات غالبية غير شيعية لا يكون كما لو نقلته مناطق شيعية، ونفس المناطق الشيعية تختلف باختلاف توجهاتها المرجعية والسياسية.
- حصر الأحزاب الإسلامية والسياسية المُنتِجة للمنابر.
من الواضح اعتبار الأحزاب والتيارات المنابِرَ طريقًا للدفاع عن الرؤى والأدبيات، والترويج لها، فنجِدُ تَمَيُّزَ مِنبر حزب الدعوة بالطرح السياسي المبني على قراءات خاصَّة في الكتاب العزيز وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، وفي المقابل فإنَّ مِنبَرَ التيار الشيرازي برز في الطرح الاجتماعي حينًا وبالطرح الولائي والشعائري حينًا، وهكذا نقف على خصائص المنابر بالوقوف على انتماءاتها الرابطة بينها وبين الثقلين المقدَّسين.
- حصر المناسبات الرسمية للعمل المنبري.
يحتاج الباحث إلى دراسة الخطاب بالنظر إلى المناسبة التي ألقي فيها، وذلك للوقوف على مستوى استثمار الخطباء للمناسبات الإسلامية في البناء الخطابي.
- طبيعة المواضيع الرئيسية التي تتبناها المنابر.
وهذا موضوع واسع؛ إذ أنَّ المِنبَر مُتأثر كما هو مُؤثِّر، وتأثره ينعكس على ما انتقائه للمواضيع التي يطرحها، وقد تكون خارج اهتمامات الناس، إلَّا أنَّ انحصار الخطيب في دائرة خاصَّة من التأثر يدفعه لفرض مواضيع ربَّما تسبَّبت في إحداث تشوهات واضطرابات ثقافية في المجتمع!
- المِزاج الحواري للمجتمع العِراقي.
تبتعد المواضيع عن مقاصدها كلَّما تداولها الناس، ولا يخفى ما للمجتمع العراقي من تميُّز في الحوارات والنقاشات التي قد يغلب عليها المِزاجُ الحادُّ أحيانًا، وهذا يُؤثِّر بشكل كبير في توجيه مسارات المواضيع ابتداءً من المِنبر مرورًا بالتموجات في الحوارات والنقاشات، انتهاءً باستقرارها ثقافاتٍ في المجتمع. وإذا رُصِدَت هذه الحالة بدقة فإنَّ من التوصيات قد يكون التوجيه لطرح أصول تحمُّل الأفكار وأدبيات تداولها.
- طبيعة النظر الثقافي للآخر الموافق، والآخر المختلف.
وهذا أيضًا يلعب دورًا رئيسيًا في توجيه مسارات الخطاب بحسب نفسيات المستمع، ومن الواضح أنَّ البناء على احترام الآخر المختلف يُوَفِّرُ مقدارًا مهمًّا من الصدق في تحمل الخطاب وتداوله.
عندما تنتشر في العِراق مراكز الدراسات والبحوث المتخصِّصة في ما يتعلق بالمنبر الشيعي، فإنَّها -بطبيعة الحال- ليست جهة ذات طابع تسلطي، بل هي في الواقع جهة تدعو العلماء والخطباء والمساجد والحسينيات للاطلاع على ما تنتج من دراسات وبحوث طلبًا لتحقيق أعمق الفائدة من خطاب المنبر، وعكسها من خلال المجتمع العِراقي إلى باقي المجتمعات بما يعود عليها بما عاد عليه من نفع يُرجى أن يكون عظيمًا.
لا شكَّ في خطورة الدور الذي يقوم به المنبر، وأُؤكد على تضاعف الخطورة في منابر العِراق؛ لما تقدَّمتِ الإشارَةُ إليه من محوريته الثقافية. ومن هنا، آملُ من الله العلي القدير أن يوفق المؤمنين هناك إلى الاهتمام بالمنبر اهتمامًا موضوعيًا على أسس علمية بما يعود بالخير على المؤمنين في كلِّ مكان.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
25 شوَّال 1439 للهجرة
البحرين المحروسة