بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
موردُ دوران الشهادة بين البيِّنةِ والقرينة
فهذا مختصرٌ في حكم الشهادة استنادًا إلى اليد أو (الاستصحاب)[1]. فأقول:
من جهات البحث في قاعدة (أمارية اليد على الملكية) النظر في حُكْمِ: الشهادة بالملك استنادًا إلى اليد، فقد “اتَّفقوا على أنَّ اليد تدُلُّ على أنَّ المستولي مالِكٌ، إنَّما الكلامُ: هل يجوز لنا الشهادة على الملكية بمجرَّد مشاهدة الاستيلاء؟[2]“، وقام النظر في هذه الجهة لما بدا تعارضًا بين النهي عن الشهادة الظنِّية، وبين اعتبارها كما تفيد بعض النصوص، ولذلك وصف الشيخ السبحاني المسألة بـ(الشائكة).
من المعاصرين، قال السيد الخوئي (قُدِّس سرُّه)، ووافقه نصًّا الشيخ الوحيد الخرساني (دام ظلُّه): “لا تجوزُ الشهادةُ إلَّا بالمشاهدة أو السماع أو ما شاكل ذلك، وتتحقَّق المشاهدةُ في مورد الغصب والسرقة والقتل والرضاع وما شاكل ذلك، وتُقبَلُ في ذلك شهادة الأصم، ويتحقُّقُ السماعُ في موارد النَسَبِ والإقرَارِ والشهادة على الشهادة والمعاملات والإيقاعات وما شاكل ذلك.
وعلى هذا الضابط لا تُقبَلُ الشهادة بالملك المُطلق مستندةً إلى اليد. نعم، تجوز الشهادةُ على أنَّه في يده، أو على أنَّه ملكه ظاهرًا”[3].
فيما ذهب السيد الشيرازي (قُدِّسَ سرُّه) إلى الجواز، فقال: “الأقرب قول مجوزي الشهادة بالاستصحاب، أي أنْ يشهدَ أنَّ هذا ملكه (بدون أن يقول: كان ملكه بالأمس، أو يقول: كان ملكه بالأمس، وإلى الآن بالاستصحاب، أو: كان ملكه ولا أعلم مزيل للملك …)”[4].
- استناد المانِعين:
- روي عن ابن عبَّاس أنَّ النبي (صلَّى اللهُ عليه وآله) سُئِلَ عن الشهادة، فقال: “ترى الشمس؟ على مثلِها فاشهد، أو دَعْ”[5].
قال الشيخ السُبحاني: “إنَّ الشهادةَ أُخِذَتْ من الشهود، وهو المعاينةُ بالحسِّ”[6]. مستشهدًا بحديث ابن عبَّاس. ومثله ما:
- عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “لا تَشْهَدَنَّ بشهادةٍ حتَّى تَعرِفها كما تَعرِفُ كَفَّكَ”[7].
يظهر أنَّ التشبيه العلمي بالشمس في الحديث الأوَّل، وبالكفِّ في الثاني مقصودٌ على وجوب العلم القطعي في الشهادة، كما يقطع بوجود الشمس المشرقة فعلًا وبحال كفِّهِ، فلا يداخله شكٌّ من أيِّ جهة.
- استناد المجيزين:
- عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجلٌ: “أرأيتَ إذا رأيتُ شيئًا في يَدَي رَجُلٍ، أيجوزُ لي أنْ أشهدَ أنَّه له؟
قال (عليه السلام): نعم.
قال الرجلُ: أشهدُ أنَّه في يده، ولا أشهدُ أنَّه له؛ فلعلَّه لغيره!
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): أفيحِلُّ الشِراءُ مِنه؟
قال: نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فلعلَّه لغيره! فمن أين جازَ لك أنْ تَشْتَرِيَهُ ويصيرُ مِلْكًا لك ثُمَّ تقول بعد الملك: هو لي وتحلفُ عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟!
ثُمَّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو لم يَجُزْ هذا، لم يَقُمْ للمسلمينَ سُوقٌ”[8].
تَنسَبِقُ إلى الذهن معارضةُ هذا الحديث لِحَدِثَي المنع، والجهةُ أنَّ نفسَ السائِلَ في رواية حفص بن غياث كان متردِّدًا في جواز شهادته، بل ظهر منه الامتناع المُبَرَّر بـ”لعلَّه لغيره”!
- عن معاوية بن وهب قال: قلتُ له (يعني أبا عبد الله عليه السلام): “إنَّ ابنَ أبي ليلى يسألُنِي الشهادةَ على أنَّ هذهِ الدار ماتَ فُلانٌ وتركها مِيراثَه، وأنَّه ليس له وارِثٌ غير الذي شهدنا له.
فقال (عليه السلام): اشهد بما هو عِلْمُك.
قلتُ: إنَّ ابن أبي ليلى يُحلِفُنا الغمُوس؟
قال: احلفْ؛ إنَّما هو على عِلمِك”[9].
- عن معاوية بن وهب، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): “الرجلُ يكونُ في دارِهِ ثُمَّ يَغيبُ عنها ثلاثين سنة ويدعُ فيها عيالَه، ثُمَّ يأتينا هلاكُهُ، ونحن لا ندري ما أحدثَ في دارِه، ولا ندري ما حَدَثَ له من الولد، إلَّا أنَّا لا نعلم نحنُ أنَّه أحدث في داره شيئًا ولا حدث له ولد، ولا يقسم هذه الدار بين ورثته الذين ترك في الدار حتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَا عَدْلٍ أنَّ هَذه الدار دار فُلان بن فلان ماتَ وتَرَكَهَا مِيرَاثًا بين فُلانٍ وفُلان، أَفَنَشْهَد على هذا؟
قال (عليه السلام): نعم.
قلتُ: الرجلُ يكونُ له العبدُ والأمَةُ، فيقولُ: أبقَ غُلامِي وأبقتْ أمتي، فيُوجَدُ في البلد، فَيُكَلِّفُهُ القاضي البينة إنَّ هذا غلام فُلانٍ لم يبعه ولم يَهبْهُ، أفنشهد على هذا إذا كُلِّفْنَاه، ونحن لم نعلم أحْدَثَ شيئًا؟
قال: فَكُلَّمَا غَابَ من يَدِ المرء المسلم غُلامُه أو أمَتُه أو غَابَ عنك لم تشهد عليه”[10].
تشترك دلالة القسم الأوَّل من هذه الأخيرة مع سابقتيها، غير أنَّ في ذيلها ما “يستشمُّ منه الخِلاف”[11]، ولذلك رجَّح العلَّامةُ المجلسي (طاب رمسُه) حملَ قول الإمام (عليه السلام): “فَكُلَّمَا غَابَ من يَدِ المرء المسلم غُلامُه أو أمَتُه أو غَابَ عنك لم تشهد عليه” على الاستفهام الإنكاري، أي أنَّ الإمام (عليه السلام) يُنكِر على السائل أصل سؤاله!
أقول: هنا أمران:
الأوَّلُ في الاستصحاب:
وهو “الحكم ببقاء حكمٍ أو موضوعٍ ذي حكمٍ شُكَّ في بقائه”[12]، كما لو شكَّ في طهارة الماء بعد علمه بطهارته فعلًا، فهو إمَّا أن يزيل الشكَّ باليقين السابق، أو أن يبني عليه ولا يعتني بشكِّه، والنكتة في الاستصحاب أنَّ اليقين السابق والشكَّ اللاحق، كلاهُما موضوعيان، أي أنَّ اليقين السابق يقينٌ لا توهم، والشكَّ اللاحقَ له دواعيه، لا لمجرَّد فرضِ الاحتمال بربَّما وقد! وهذا الأخير هو ما أنكره الإمام (عليه السلام) بحسب ما يظهر للنظر القاصر.
ثُمَّ أنَّ العلم بالشيء من حيثُ التغير على نحوين، الأوَّل ما يكون معلولًا للحدوث وليس من موضوعات البقاء، كالقتل والغصب والضرب والسرقة وما شابه، والثاني ما يكون معلولًا للحدوث والبقاء، وإلَّا لارتفع، كالملكية والزوجية وما شابه.
في النحو الأوَّل لا تحتاج شهادة الشاهد إلى تجدُّدٍ، فالمبدأ والحال واحِدٌ، ولكنَّ الكلام في الثاني لرجوع علم الشاهد إلى مبدأ الحدوث، لا إلى استمراره، ولذلك استشكل السائل استشكالًا موضوعيًا؛ لارتكاز شرط العلم اليقيني في الشهادة، لا لطرو شكٍّ موضوعي يصار معه إلى الاستصحاب. فتأمَّل.
ومن هنا، قد يصحُّ ما يراه النظر القاصر من انتفاء موضوع الاستصحاب في المقام.
الثاني في دوران الشهادة بين البيِّنة والقرينة:
لا شكَّ في كون شهادة العدلين في موارد النحو الأوَّل بينَةً حاكِمة، كما ولا شكَّ في عدم مساواة شهادة العدلين في موارد النحو الثاني لها؛ ففي الأوَّل حاملة لقوتها البيانية، في حين أنَّها في الثاني مدعومة بجعل وإمضاء الشارع.
نرى أنَّ تجويز الشهادة محل الكلام لا لكونها بيِّنة، ولا ظهور يقضي بذلك، بل قد يتعين القول بقيامها قرينة على صحَّة الملكية، فيرجع الأمر إلى اطمئنان القاضي، لا إلى الشهادة بعد انتفاء البينة لعدم اليقين الذي هو شرط فيها، ولا تعارض بين حديثي المنع وأحاديث الجواز.
والله العالم
كتبه
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
6 شعبان 1439 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………………………………………………………………………………………………….
[1] – جعلتها بين قوسين لما يتَّضح قريبًا إن شاء الله تعالى.
[2] – الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية – الشيخ جعفر السبحاني – ج1 ص88
[3] – منهاج الصالحين للخوئي مع فتاوى الوحيد، ج2 تكملة منهاج الصالحين، المعاملات، كتاب الشهادات-شرائط الشهادة، المسألة 96 ص467
[4] موسوعة الفقه – الشيرازي- ج86، الشهادات، ص213
[5] – عوالي اللئالي – ابن أبي جمهور الأحسائي – ج 3 – ص 528، وذكره المُحقِّقُ مدركًا في شرائع الإسلام ج4 ص132
[6] – الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية – الشيخ جعفر السبحاني – ج1 ص88
[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 7 – ص 383
[8] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 7 – ص 387
[9] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 7 – ص 387
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 7 – ص 387 – 388
[11] – الإيضاحات السنية للقواعد الفقهية – الشيخ جعفر السبحاني – ج1 ص92
[12] – كفاية الأصول – الآخوند الخرساني – ص384