قال تعالى: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[الشعراء/١٦-٢١].
بعد أن أُلقي كليمُ الله موسى عليه السلام في اليمّ بأمر الله تعالى أخذه اليمّ لقصر عدو الله فرعون، فتربّى سلام الله عليه هناك، لذلك نجدُ فرعونَ حسب النقل القرآني يُذكِّره بأنه تربّى عنده وعاش معه عددًا من السنين، وكأنه يمنّ عليه بذلك، ولعله أراد استعطافه أو بيان جرمِه، حيثُ قال له أنك من الضالين، ويبدو أنه يقصد أن نبي الله موسى عليه السلام قد ضلّ عن مذهب فرعون وما يريد، إلا أن النبي موسى عليه السلام أجابه بأنه فرَّ منهم بعد خوفه منهم ومن بطشهم وتوجّه إلى الله تعالى، فكانت نتيجة الفرار إلى الله أن وهبَه الله حُكمًا وجعَلَه من المرسلين.
قال تعالى: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[القصص/٢١].
على أيّ حالٍ فمن هذه الآيات يمكن أن نقول بأن الفِرار من الظّلم والتوجه إلى الله تعالى بصدقٍ ليس من شأنه النجاة فقط، بل من شأنه الحصول على الكرامة والمراتب العالية من الله تعالى عندما يكتسي الفرار إليه بالإخلاص، فالفرار من بطش العدو قد يكون ويتحقّق برحمةٍ من الله تعالى فننجوا، لكننا عندما نفرّ إليه تعالى مخلِصينَ فإنه من غير المستبعد نيلُ الكراماتِ والهدايا والمراتب العالية.
ومن أروع أمثلة الفِرار إلى الله تعالى هو ما قام به الإمام الحسين عليه السلام، حيث أن توجهَهُ إلى الله تعالى كان يعني ذبحه واستشهاده بتلك الطريقة الوحشية، وانتهاك حُرمِه وسبي نسائِه وأخذهنَّ أسارى لقصور الظالمين، لكنه لم يتأخر عن تلبية نداء الله عندما كان دينُ الله تعالى متوقفًا في بقائه على الفِرار إلى الله بالشكل الذي يستدعي استشهادَه وما يترتّب على تلك الشهادة، وقد نالَ على ذلك ما نال من الكرامة والعزّة من الله تعالى، فإن له درجةً لم يكن لينالها إلا بالشهادة.
هذه دروسٌ من التاريخ الإيماني ينبغي لنا التوقفُ عندها والتأمل فيها كثيرًا، فالمراد منّا هو التوجه إلى الله والفِرار إليه، مهما كان طريقُ التوجه ما دام مَرضيًا ومختارًا للشارع المقدّس، فالطريق إلى الشيء هو المهم في الشريعة الحقّة وليست الغاية هي الأهم، فالغاية لا تبرّر الوسيلة دائمًا، كما يحاول البعضُ أن يشيع.
لذلك أقول إذا كان الطريق المحقِّق لمعنى الفرار إلى الله تعالى هو مواجهة الظالمين فليكن، وإذا كان هو الابتعادُ عن مواجهتهم والمحافظةُ على النفس وما يُمكن المحافظة عليه ممّا له حرمةٌ عند الله فليكن، والباحث الناظر في سِيَر الأنبياء والأوصياء لن يفوته هذا الأمر، ويمكن الإشارة إليه بمقارنةٍ بسيطةٍ كما يلي:
في الآيات التي تحدّثنا عنها في هذا المقال فرّ موسى من فرعون وقومِه فسَلِم من بطشهم، أمّا في قصّة خليل الله إبراهيم عليه السلام فنجدُه واجه القوم بتكسير أصنامهم حتى تعرّض للإحراق، بل نجدُ أن نفس النبي يواجِه تارةً ويبتعد عن المواجهة أخرى، كلّ ذلك بشرط أن يكون موافقًا لما يريد الله، فيتحقَّق عنوان الفِرار إلى الله تعالى.
همسة: بعد هذا مع النظرِ لعصمة الأنبياء والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم، لا يمكن الأخذُ بقيام أحدِهم وتوقف آخر أو العكس دونَ ملاحظة كلّ الظروف المحيطة بكلّ قيام وقعود والتوجيهات الصادرة من المنبع الصافي، وهو القرآن الكريم والعترة الطاهرة معًا.
محمود سهلان
٢٢ صفر ١٤٣٩هـ
١١ نوفمبر ٢٠١٧م