قد يكون التغيير والتبدل في أحوال المجتمعات البشرية من أشدِّ الظواهر التاريخية ثباتًا، وعليها تقوم بحوث فلسفة التاريخ التي تحاول التوصل للأنماط والقوانين العامَّة الحاكمة للتغيرات والتبدلات في مسير حركة المجتمع البشري. هذا طبيعي، وبه تبقى الروح في الحياة؛ فالتجدُّدُ في عمومه أمرٌ مطلوب، غير أنَّ الضَبْطَ شَرْطٌ في الاستقامَةِ على التجديد وفق بناءٍ تكاملي صحيح.
بما أنَّ الثقافات وطباع الفِكر تتغير وتتبدل، فمن الطبيعي أن يتغير نجاحُ قانونٍ ما بالأمس إلى فشلٍ اليوم؛ إذ أنَّ نجاحه كان لمناسبته الظرفية، وباختلاف الظرف تختلف النتيجة، ومن هنا تأتي أهمية المراجعات الدورية للقوانين والدساتير البشرية.
بالبناء على هذه الحقيقة، نرى من بعض علمائنا والكثير من المثقفين والجامعيين الدعوة إلى العمل على التحرُّك بالمباني والأحكام الفقهية بما يُحقِّق لها (المواكبة) للعصر، ويرون ذلك ضروريًا، وإلَّا فالنتيجة هي عزل الإسلام عن الحياة.
يبدو لي أنَّ هذه القراءة، أو الرؤية، جاءت نتيجة للتراخي في التفريق بين الغاية من القانون الشرعي والغاية من القانون البشري. فلنلتفت جيِّدًا..
جاء القانون البشري لتنظيم المجتمع في ظلِّ ظرف خاص، فالقانون مأخوذٌ من نفس الحالة الاجتماعية القائمة بالفعل، ولذا فهو يتغير بتغيرها.
أمَّا القانون الشرعي فللمحافظة على المجتمع بحسبه، فهو المعيار في سلامة التغيرات والتبدلات الطبيعية، بحيث يُقاس التغيير على القانون الشرعي، فإن وافق أُمضي، وإلَّا هُذِّبَ أو أُلغي.
أعتقد بأنَّ المشكلة في تقبُّل حاكمية الشرع تأتي مع الارتهان الثقافي والفِكري لما يتحقَّقُ في الواقع الخارجي من منجزات علمية، والحال أنَّ هذه المنجزات ليس بالضرورة أن تكون صحيحة، كما وأنَّها قد لا تكون محلًّا لملاكات الأحكام الشرعية.
أضرِبُ مثالين:
الأوَّل: يذهبُ بعضُ الفُقَهاء إلى حُجية الحساب الفلكي في القول بهلال الشهر العربي، ويذهب آخرون إلى عدم حجيته.
بعيدًا عن مناقشة المباني والآراء، يقع الكلام في نفس الملاك، فهل هو واقعية دخول الشهر، أو أنَّه في الرؤية؟
قد يقول بعضٌ بظهور إرادة دخول الشهر، وقد يقول آخرون بأنَّ هذه الإرادة بحاجة إلى بيان زائد، وهو: أو بِمَا يُحْرَزُ به الدخول، بعد: صوموا لرؤيته.
أُكرِّرُ مُؤَكِّدًا على أنَّ المقام ليس مقام استعراض للآراء الفقهية ومناقشات العلماء، فما أردتُ الإشارة إليه هو ضرورة التفريق بين القانون الشرعي والقانون البشري بالنسبة إلى الحالة الاجتماعية القائمة، والمهم هنا الالتفات إلى أنَّ إحراز دخول الشهر إحرازًا يقينيًّا بالحساب الفلكي لا يعني بالضرورة حجيته في الإثبات، ويرجع ذلك إلى مبنى الفقيه وتتبعه لجهات المسألة، وهذا لا يعني عدم صحة الحساب الفلكي، ولكنَّ صحته لا تعني حجيته ما لم يُدرك المِلاك الخاص، وإلَّا فالالتزام بموضوعية النص.
الثاني: عندنا قاعدةٌ فقهية تقول: الولدُ للفراش.
هل نحتكم إلى فحص الحمض النووي للفصل في قضايا الإنكار؟
أمرٌ آخر: لا يثبتُ الزنا في الشرع إلَّا بأربعة شهود رأوا الحالة الخاصة. فهل نعتبر التسجيل المرئي بدل الشهود الأربعة؟
السؤال الفصل: هل المطلوب الذي يريده الله تعالى منَّا هو إثبات الواقع بأي طريق كان؟ أو أنَّ المطلوب هو الإثبات بحسب الطرق المذكورة فقط؟
لا يُقال ببداهة مطلوبية الحقيقة في هذه الدنيا، ففي مسألة الزنا، الزاني والزانية آثِمَانِ بلا كلام، ولكنَّ كون الشهود على الواقعة أربعة، فهذا كاشفٌ عن أنَّهما لم يراعيا أدنى حرمة للمجتمع، فشهودُ أربعَةٍ أمرٌ مستبعد جدًّا ما لم يكونا مستهترين مغرورين، فالقضية ليست في ارتكاب الفاحشة فقط، وإنَّما في ارتكابها مأخوذ فيه الظرف، وبالطبع لا يعني ذلك: استتر وافعل ما تشاء! هذا كلام باطل بلا تردُّد.
قد يُقال: وهل نقبل بالمظنون مع وجود ما يُحقِّقُ لنا اليقين؟
أقول: في هذه الحياة، ومن أجل الكثير من المصالح المجتمعية والاجتماعية العامَّة، قد لا يكون اليقين مطلوبًا، بل المطلوب هو ما تُوصِلُ إليه الأدوات المنصوصة، وهذا راجع إلى تداخل وتقاطع وتعاكس وتزاحم الكثير جدًّا من العناوين التي لا يمكن للعقل البشري الإحاطة بها.
يقال: هذا تخلُّف، ولا بدَّ من الرجوع لحاكمية العلم دائمًا. أوليس الشرع يحثُّ على العلم ولا يختلف معه؟
أقول مُكَرَّرًا: قد يُصيبُ العِلمُ الواقع يقينًا، ولكن: من يقول أنَّ المطلوب هو (إصابة) اليقين؟ فالقضية لا ترجع إلى نفس الموضوع مستقلًا عن ظروفه الكثيرة والمعقدة والتي لا يعلمها غير الله تعالى، ومن هنا جاءت الحكمة من التعبد، وهو بالفعل حياة للمجتمع وتأديب له من شطحاتٍ قد تنتهي -والعياذ بالله- إلى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا).
وقد قال رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله): “إنَّ هذا الدين متين، فأوغِلُوا فِيِهِ بِرِفق”، فلا تأخذننا الدنيا بتسارعها، فإنَّها عن قريب زائلة، وعلينا أن نُدرِكَ بدقة عالية مضامين قوله تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
يقال: وَصَلَ الناسُ إلى سطح القمر، وأنتم لا تزالون في شهود ورؤية بالعين!!
أقول: من الرائع جدًّا أن يصل الإنسان إلى القمر، وأن يكتشف الآفاق، وهذا لا مدخلية له فيما نحن فيه، كما أنَّ الوصول إلى سطح القمر قد لا يكون تقدُّمًا، فمن قال أنَّ على الإنسان تكلُّف معرفة ما في القمر؟
ولكنَّ فِقه الثقلين هو سنام العلم والمعارف، فيُقاس عليه، لا يُقاس هو على غيره.
ولذلك، على العصر أن يواكب الفِقه، وليس العكس. علينا أن نسعى حثيثًا لتهذيب الواقع بما يريده الفقه، لا أن نُهذِّب الفِقه بما يريده الواقع..
نعم، قد يُغيِّرُ بعضٌ شيئًا من الفِقه بحسب مقتضيات العصر، فأسأل الله تعالى لهم التوفيق وأن يكون عملهم في مرضاة الله تعالى، وليس ما طرحتُ أكثر من وجهة نظر مقتنع بها تمامًا، وأرجو ان نكون على اختلافاتنا عند الله سبحانه إلى خير.
السيد محمَّد علي العلوي
2 صفر 1439 هجرية