قد لا يسأل الناسُ، ولكنَّهم إذا سألوا فلا بُدَّ من إجابتهم بالدقة التي تضمن الاستقرار المعرفي، فلا يُدفعون عن السؤال بما يفضُّهم من حول مشارب المعارف الصحيحة، ولا يُتخمون بما لا طاقة لهم به فيخملون يائسين كارهين.
يقضي الواقع اليوم بتراجع المنهج المرحلي في التثقيف والتعليم؛ خصوصًا وأنَّ التريث في الإجابة أصبح من دلالات عدمها أو حبسها، وسرعان ما ينفلت السائل في متاهات التشكيك والارتدادات العنيفة ضِدَّ العلماء ومن دونهم من عموم طَلَبَةِ ومُبَلغين، فالأمر المشار إليه لا يتعدَّى إلى علوم ومعارف غير ما يتعلَّق بالدين عمومًا، والإسلام على وجه الخصوص.
على أيَّة حال، فالأمر واقِعٌ ولا بُدَّ من التعامل معه بدِقَّةٍ وحكمة.
مِمَّا يُثَارُ اليوم بكثرة، وقائِع كربلاء من جِهةِ الصحة وعدمها، وبسبب انفتاح الساحة أمام مختلف الآراء والأقوال دون وجود قيود ولا ضوابط، فإنَّ المشكلة تزداد تعقيدًا، ويبتعد السائِلُ عن مرادِه من طرح السؤال، وتتشعب المسائل دون قيامِ جوابٍ صحيحٍ يفتحُ الأذهانَ على معارف وفق بناء تحصيلي متين.
في هذه السلسلة أرجو التوفيق لبيان جهةِ الاختلاف بين النقل النصي ونقل الحدث؛ طلبًا لاستقرار الأذهان على بعض الأسس المهمَّة عند النظر في المنقول، ومنها أنتقل إلى طرح رؤية خاصَّة أرجِعُ إليها بعض أحداث كربلاء التي قد لا يقبلها البعض، ولكنَّها تُصحَّحُ بالقياس أو الإرجاع إليها.
تنقسم الجملةُ من حيث قصد الإخطار إلى قسمين، فهي إمَّا أن تكون إنشائية، كما في الاستفهامات (هل ذهب محمَّدٌ إلى المأتم؟) والأوامر (اذهبْ إلى المأتم)، وإمَّا خبرية، كما في سائِر الجُمل المتميزة عن غيرها بقصد الإخبار.
تنحصِرُ المنقولات في القسم الثاني، فالمُخبِرُ أو الراوي، سواء نَقَلَ خبرًا أو جملةً إنشائية، فهو في مقام الإخبار.
قد يقول: قال جعفرٌ لولده: “قُمْ يا ولدي للصلاة”.
فهو يُخبِرُ عن حادِثَةٍ وعن نصٍّ مقول. أمَّا الحادِثة فهي أنَّ (جعفرَ قال)، وأمَّا المقول فهو نصُّ ما قاله جعفر.
وقد يقول: “دخلَ حسنٌ على صاحِبه وسَمِعْتُهُمَا يَتَشَاجران”.
يُخبِرُ هنا عن حَدَثٍ فقط، وهو دخول حسن على صاحبه، وشجارهما.
في الحالة الأولى ننظرُ إلى دلالات النص، وقد نتوسَّع في قراءة شيء من دلالات أجواء النص، فنقول مثلًا:
ما هي دلالات أمر جعفر ولده بالصلاة؟ هل كان كسولًا عنها؟ هل كان لاهيًا؟ أم أنَّ الوالِد يُحبِّ ممارسة السلطة على ولده؟
المُتَيقن في المقام أنَّ جعفرَ قد أمر ولده بالقيام للصلاة. وأمَّا التوسع في القراءة فمن الصعب أن ينتهي بِنا إلى أكثر من تسجيل مجموعة احتمالات يترجَّحُ أحدها مع ضم قرائن تُحصَّلُ من موارِد أخرى.
في الحالة الثانية ينفتِح باب الاحتمالات أكثر من الحالة الأولى، ومن أهمِّ ما ينبغي الالتفات إليه هو أنَّ الناقِل يَنقلُ فهمه لواقعة ما، ولا ينقِل نفس الواقعة.
ولذا، نحتاج في دراسة النقل التاريخي للأحداث إلى الإحاطة بطبيعة الإطار العام لها لنقيس عليه المنقول، وهذا أمر في غاية الأهمية والضرورة، بل قد يكون حاكِمًا على اعتبارية المصدر من عدمها.
ثمَّة مسألة مهمَّة أخرى ترِدُ على النقل التاريخي للحدث، وهو ضعف العناية بالنقل النصي عن الراوي الذي قد يقول -مثلًا-: “وقف جابِرٌ على باب غسَّان”، ويُنقَل عنه: “دخل جابِرٌ على غسَّان”، وعن الناقِل يُنقَل: “طرَقَ جابِرٌ باب غسَّان”..
يُطرَحُ السؤالُ التالي:
هل دخل جابِرٌ على غسَّان؟
أقول: هذا السؤال، إن أريد له الإجابة المحدَّدة بحدوده فهو سؤال مخالِف للمنهج الصحيح؛ حيث إنَّ التناول الجزئي للحدث التاريخي غالِبًا ما يؤدِّي إلى نتائِج خاطئة، والسبب أنَّ نفس هذا الحدث لا بدَّ وأن يكون في منظومة تسلسلٍ من الظروف والأحداث.
فنقول: ماهي طبيعة العلاقة بين جابِر وغسَّان؟ هل لهما من العادة التزاور؟ هل زيارة جابِر لغسَّان تستدعي التحقيق أو لا؟
لذا، فإنَّ محاسبةَ النقل التاريخي للحدث تختلف من عدَّة جهات عن محاسبة نقل النصوص، خصوصًا أنَّ نقل الحدث هو في الواقع نقلٌ له من خلال فهم الناقل، وهذه مسألة ارتكازية يبحثها عُلَمَاءُ فلسفة التاريخ بتفصيل جيِّد.
في البحوث التاريخية يعتمد العلماء الماكنون على استخلاص الجو العام من مجموعة الأحداث المنقولة، وهذا الاستخلاص يعمل عمل الفرز المُعتَبَر لنفس الأحداث في مرحلة لاحِقة.
أضرِبُ مثلًا:
ما رأيكم في الرئيس العراقي السابق صدَّام حسين؟
يُقال: طاغية. ويُقال: سيف العرب. ويُقال: باني العِراق. ويُقال: مُجرمٌ غدَّار. وغير ذلك..
تعتمد هذه الأقوال في الغالب على نظرة من جانِب واحد، فلا يرى فريقٌ صدَّام في غير الذبح والقتل والتعذيب في السجون. ولا يراه الفريقُ الآخر في غير ضربه للشيعة وعدائه لإيران ورفعه لشعارات العروبة والقومية.
أمَّا الباحث الموضوعي فينظر إلى صدَّام حسين من خلال الجو العام والإطار الأدبي الذي يتحرَّك فيه وبمقتضى مسائله، وهذا ما أُبيِّنُه إن شاء الله تعالى في المقال القادم، وعلى كُبراه تُقاسُ الكثير من الأمور.
السيد محمَّد علي العلوي
13 من المحرَّم 1439 هجرية