أرسلتُ يومَ الجُمُعَةِ تسجيلًا مرئيًا يُقدِّمُ بحثًا علميًا حول نظرية (تعدُّد المهام)، وهي أن يقوم الفردُ الواحد بأكثر من مهِمَّة واحدةٍ في آن واحد، وقد انتهى إلى أنَّ القول بإمكان ذلك لا يعدو كونه وهمًا؛ إذ أنَّ الذي ثبت هو استحالة أن يقوم الفرد الواحد بأكثر من مهمة واحدةٍ في نفسِ الآن.
رابط التسجيل:
http://www.dailymotion.com/video/xzrh0r_الفيلم-الوثائقى-اختبر-دماغك-الآنتباة-مشاهدة-مباشرة_creation
هذه الاستحالة ثابتة فلسفيًا؛ فالمشغولُ لا يُشغل، بل المشغولُ يستحيلُ شغله؛ والنُكتة الأصل في ذلك أنَّ الآنَ الواحد لا يستوعب أكثر من صورة علمية واحدة، والقول بخلاف ذلك قولٌ بجواز اجتماع شيئين في مكانٍ واحدٍ وآنٍ واحدٍ ومِنْ نَفسِ الجِهَةِ، وهذا من أوَّل وأولى المستحيلات التكوينية، فضلًا عن استحالتها العقلية.
وهناك براهين فلسفية أخرى تنتهي إلى استحالةِ اجتماعِ صورتين في آنٍ واحِدٍ، نُعرِض عنها حذرًا من الإطالة.
- هل يقتصِرُ ورودُ المشكلةِ على مسألة (تعدُّد المهام) في آنٍ واحدٍ؟
للإجابة على هذا السؤال أُبَيِّنُ التالي:
تلتقطُ حواسُّ الإنسانِ صورًا عبرَ منَافِذِهِ الحِسية الخمس (السمع والبصر والشم والذوق واللمس)، فتُطرحُ على صفحة ذهنية أولى، ومن بعد ذلك يقوم الفِكْرُ بتسليط الضوء عليها مُقَدِّمَةً لاستيعابها وفهمها، ثُمَّ نقلها إلى صفحة ذهنية أخرى خاصَّة بالمواد الأولية للقضايا التصديقية، ولذلك فإنَّ الإنسان يعجز عن الاستيعاب الصحيح للصور العلمية كلَّما زادت سرعتها في الحركة أمام حواسِّه الناقلة؛ وقد اتضح السبب، وهو حاجة الفكر لاستيعاب الصورة المنقولة، ولازم ذلك الحاجة إلى بعض الوقت الفعلي.
أثبت البحثُ في التسجيل المرئي استحالةً قيام الفرد الواحد بأكثر من مهمَّة في آن واحد، وقد بيَّنا مرجع الإشكال، وهو استحالة اجتماع صورتين في آنٍ واحد، وبالتالي فإنَّ القولَ بالإمكان لازِمُه عدم حصول العلم أصلًا، وذلك لعدم التمايز بين الصور، وهو شرطٌ في حصول العلم، وسبب عدم التمايز هو نفس الاجتماع.
من نفس هذه الجهة يقتربُ حصولُ العلمِ مِنَ الاستحالة عند خضوع الدماغ لتواردٍ صِوَري سريعٍ يفوق قدرةَ الفكر على الاستيعاب، ومن هنا، نقول:
إنَّ التسارع في توارد الصور على الذهن يقع في طول استحالة اجتماع صورتين في آن واحد. وبعبارة أخرى:
القول بوقوع الاجتماع -وهو محال- يلزم منه استحالة حصول العلم أصلًا، ولكن في التسارع يقعُ علمٌ ولكنَّه مغلوط، فهو حُكمًا يساوي عدم حصول العلم أصلًا؛ والسبب هو عجز الفكر عن استيعاب الصور الواردة كلَّما ازدادت سرعة التوارد.
محلُّ الإعضال:
لم يسبق للبشرية أن تعرَّضت لِمثل هذا التسارع المشهود في توارد الصور؛ ومع ما يُسمى بوسائل التواصل الاجتماعي عُدِمَ خيارُ إمكان التريث لاستيعاب صورة علمية بعد صورة، والمشكلة أنَّ الإنسان في حالِهِ القائم لا يُدرِك مغلوطية إدراكاته، فيبني على صحة ما ينتهي إليه فِكرُهُ، والحقُّ أنَّه يوغِلُ دون خيارٍ منه في مزالق الجهل المركب.
رؤى خاطئة.. تحليلات خاطئة.. قرارات خاطئة..
وبالرغم من كونها خاطئةً إلَّا أنَّ تَرَكُّبَ الجَهلِ يُثبِت لها المنطقية والتعقل تعديًا واستبدادًا، وهنا محلُّ الإعضال في المشكلة التي بسببها عادت البشرية “على شفا حفرة من النار، مُذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام”!
- الارتداد على نفس التسجيل المرئي:
سجلتُ مجموعةً من النقاط على البحث في التسجيل المرئي، أذكر منها ثلاث:
- النقطة الأولى:
اعتمدَ نفسُ الإخراج المرئي في التسجيل عمليةَ التعاقب السريع جدًّا في طرح الفكرة، وكأنَّه أراد ترسيخَ عنوانٍ بعينه، وهو صعوبة، إن لم يكن استحالة، الوثوق برؤيةٍ (بشرية)؛ وذلك لما يُثبته من محدودية وضيق النظر البشري، وأنَّ النسبة الأكبر من الصورة لا يتمكن الإنسانُ من إدراكها حتَّى في الحالات البسيطة كتغير موظف الاستقبال دون ملاحظة من الزبون!
تؤسِّسُ هذه الفكرة للنسبية المطلقة في العلم والإدراك، وهذا يجرُّ طبيعيًا لإعذار كلِّ صاحب فكرة مهما كانت تافهة.
لا بدَّ من الالتفات جيدًا إلى أنَّ ميزان الحقِّ ليس هو الادعاء، فالتعدد في قول هذا بالمسيحية وذاك باليهودية وآخر بالبوذية، لا يُثبتُ صحة النسبية في المعرفة. وانَّ أقولَ بالبطلان اليقيني لكلِّ فكرة تخالف التوحيد والنبوة وإمامة الاثني عشر (عليهم السلام)، فهذا ليس استبدادًا ولا احتكارًا للحقِّ، بل أنَّ المرجع للبرهان وقيامه، وقيامه ليس بمجرد الادعاء، ولكنَّه بالموازين التكوينية الأولية الثابتة، ومن يخالف فهو ضَالٌّ بلا كلام.
هذا غير مقبولٍ اليوم، ومرجع عدم المقبولية مجموعة من الأمور، منها، بل ومن أهمها هذا التسارع الشديد في التوارد الصوري، وخصوصًا في عصر ما يُسمى بوسائل التواصل الاجتماعي. ولهذا البحث مقام غير هذا المقام.
- النقطة الثانية:
قد يُكرِّسُ التسجيل لحالةٍ من الشعور بالانهزامية النفسية؛ حيثُ إنَّ الانعتاق من الضغط (التكنلوجي) أمرٌ أقربُ ما يكون للاستحالة الاجتماعية، ومن يُجرب فإنَّه يدخل في مواجهة مباشرة وشرسة مع النظام الاجتماعي؛ إذ أنَّه من المُسْتَنكر بشدَّة عدم الاشتراك في تطبيق (whatsapp) أو (Instagram) أو (Facebook) أو ما شابه، فكيف لو قرَّر عاقلٌ الاستغناءَ عن جهاز الهاتف النقال أصلًا؟
هذا التسجيلُ يقول لنا -فيما يقول-:
أنتم محاصرون من جميع الجهات، والكلُّ يخدع الكل، والكلُّ يُضلِّل الكلَّ، ولن تتمكنوا من فعل شيءٍ حيال ما أنتم فيه!
- النقطة الثالثة:
من أهم المشاكل التي ينبغي الانتباه لها، مشكلة خداع النفس، فمن السهل أن يقول الإنسان لنفسه: كلُّ شيء يقبل الاستعمالات الإيجابية والسلبية، ويبقى الأمر راجعًا لنفس الفرد، وأنا أتمكن من السيطرة على نفسي واستعمال هذه الوسائل بهدوء، ولن أسمح لها بالسيطرة علي.
نعم، هذا كلام جميل، ولكن ما هي مساحات تحققه، وإلى أي مدى؟
إنَّ مَنْ أبدع هذه الوسائل يعلم جيدًا قابليات الإنسان وجهالاته، ويعلم نسبة أولئك الذين يتمكنون من إدارة انفسهم والابتعاد على شرنقة التكنلوجيا الخانقة، وهي نسبة ضئيلة لا تُخيفُ من يعمل بجدٍّ عظيم من أجل إلهاء الناس وإفقادهم القدرة على التركيز الموضوعي الصحيح.
ولكن، هل هذا يعني الاستسلام للواقع؟
هذا لا يعني الاستسلام، غير أنَّ نفس الاستسلام متحقِّقٌ لا محالة، ومبرَّرٌ لا محالة، ومُستأنسٌ لا محالة، ما لم.. نحترم أنفسنا.
السيد محمَّد علي العلوي
30 جمادى الأولى 1438 هجرية