لا شكَّ في أنَّنا نحتاج إلى ترسيخ مبدأ احترام الآراء وتعددها، فالعقول متفاوتة والثقافات مختلفة، ومن الطبيعي أن تتبعها الآراء والرؤى في التفاوت والاختلاف. ولكن من المهمِّ أن نؤَكِّد أيضًا على أنَّ احترام التعددية الفكرية لا يعني احترام كل رأي وفكرة تُطرح؛ فهناك من الآراء والأفكار ما لا يستحق أكثر من صفة السُخف، خصوصًا إذا كان من خلفياتِ جهلٍ وتعسُّف.
من تلك الآراء السخيفة الرأي الذي يُقلِّل من أهمية اللغة العربية وعلومها بإيرادات باهتة مَطفية.
لستُ في وارد مناقشة مثل هذه الآراء، ولكنَّني أنقل قِصَّة للأصمعي مع إعرابي تُبَين معنى أن يحيطَ العاقلُ باللغة العربية وعلومها.
ذكر ابنُ قدامة كتاب التوابين:
أنَّ الأصمعي قال:
أقبلتُ ذات يَوم من المسجدِ الجامِعِ بالبصرةِ. فبينما أنا في بعض سِككها، إذ طلع أعرابيٌّ جِلفٌ على قعود له متقلِّد سيفه وبيده قَوس، فدنا وسلَّمَ وقالَ لي: مِمَّن الرجل؟
قلتُ: مِن بني الأصمع.
قال الأصمعيُّ؟
قلتُ: نعم.
قال: ومن أينَ أقبلتَ؟
قلتُ: من مَوضِعٍ يُتْلَى فيه كلامُ الرحمن.
قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟
قلتُ: نعم.
قال: اتل عليَّ شيئًا منه.
فقلتُ له: انزل عن قعودك.
فنزل، وابتدأتُ بسورةِ الذاريات، فلمَّا انتهيتُ إلى قوله تعالى (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، قال : يا أصمعي، هذا كلام الرحمن؟
قلتُ: أي والذي بعثَ مُحَمَّدًا بالحَقِّ، إنَّه لكلامه أنزله على نبيه مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه -وآلِه- وسلَّم).
فقالَ لي: حسبك.
ثم قام إلى ناقته فَنَحَرَها وقَطَّعها بجلدِها، وقال: أعِنِّي على تفريقها.
ففرَّقنَاها على من أقبلَ وأدبرَ، ثُمَّ عَمدَ إلى سيفِه وقوسِه فكسرهما وجعلهما تحت الرجل، وولَّى مُدبِرًا نحو البادية وهو يقول:
(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ). فأقبلتُ على نفسي باللوم، وقلتُ: لم تنتبه لِمَا انتبه له الأعرابي!
فلمَّا حججتُ مع الرشيد دخلتُ مَكَّةَ، فبينما أنا أطوف بالكعبة، إذ هتف بي هاتِفٌ بصوتٍ دَقِيقٍ، فالتفتُّ فإذا أنا بالأعرابي نَحِيلًا مُصْفَرًّا، فَسَلَّمَ عليَّ وأخذَ بيدي، وأجلسني من وراءِ المقام، وقال لي: اتل كلامَ الرحمن.
فأخذتُ في سورة (الذاريات) فلمَّا انتهيتُ إلى قوله (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، صاح الأعرابي: وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا.
ثُمَّ قال: وهل غير هذا؟
قلتُ: نعم، يَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: )فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ).
فصاح الأعرابي وقال: يا سُبْحَانَ الله، من الذي أغضبَ الجَليلَ حَتَّى حَلَفَ؟
ألم يُصَدِّقُوه حَتَّى حَلَفَ؟
قالها ثَلاثًا، وخرَجتْ فيها رُوحُه.
هكذا من يفهم بيان العربية وبلاغتها وفصاحتها. العربية سِرٌّ عظيم ما انكشف إلى اليوم إلَّا بعضه.
السيد محمَّد علي العلوي
9 ربيع الثاني 1438 هجرية