شاهدتُ قبل يومين مسرحية وُصِفتْ بأنَّها نقدية هادفة، وبالفعل كانت تتحدث عن بعض المظاهر غير الصحيحة وعلى مستويات عدَّة، منها المستوى السياسي ومنها التربوي ومنها الاجتماعي، وكان الجمهور يصفق وتبدو عليه أمارات الإعجاب بالمسرحية وما تتناوله من مواضيع يبحث هو عن إثارتها ونقدرها بجرأة.
تذكرتُ تلك الأيام ونحن نشاهد مسرحيات الممثل السوري دريد لحَّام، ومنها ضيعة تشرين وكاسك يا وطن وغربة، وغيرها من الأفلام له ولغيره من الممثلين الذين عرفوا بتقديمهم مواد نقدية جريئة طالما صفَّق لها المشاهدون وتحدَّثوا عنها بإيجابية كبيرة؛ فهي أعمال تمثيلية قوية، يُعرِّضُ فيها الممثل نفسه لمسائلات قانونية، وربَّما سُلِبت حريته بحبس لمدة معينة.
وفي نفس هذا السياق تتحرَّك أقلام الصحفيين للإشادة بعمل فنِّي طالته يدُ الرقابة فمُنِعتْ منه بعض المشاهد (القوية) في نقد الأحوال، وخصوصًا السياسيَّة منها..!
تأملتُ هذه الحالة من بعض جوانبها..
أنظمة الحكم في مختلف دول العالم أنظمة ظالمة جائرة، كلُّ نظام بحسب ظروف شعبه، فهناك جور بالبطش والقمع كما كان حال صدَّام التكريتي والشعب العراقي، وهناك جور بالإتخام المالي كما هو حال بعض الشعوب المرفهة، وهناك جور بالتخدير المستمر كما هو الحال في لبنان، وهذا الجور الأخير لاعبُ (Joker) له دور في مختلف أنواع الجور السلطوي، فبعض الأنظمة الحاكمة تُخَصِّص ساحة رسمية لمنابر النقد المطلق دون حدود إلَّا المساس بالملكة، كما هو حال بريطانيا وساحة (HydePark) حيث يلتقي فيها الناس أيَّام الأحد من كل أسبوع فيستمعون لناقد هنا وآخر هناك من دون قيود أبدًا، ومن أراد التنفيس ما عليه إلَّا الانتظار ليوم الأحد فيقصد هذه الحديقة ويصرخ كيفما يشاء، ثُمَّ يذهب لممارسة حياته وقد أدَّى دورًا سوف يخلده له (الأحرار) في صُحِف البطولة!
ونظام آخر يسمح للجماهير بالخروج في مسيرات واعتصامات تُعَبِّرُ فيها عن رفض قانون أو استياءٍ من وضعٍ أو ما شابه، وقد يجعل نظام الحكم مسرحيةً أو مسيرةً أو خطابًا جماهيريًّا سببًا في تغيير أمر ما، وكأنَّ الشعب حينها قد حقَّق (بنضاله) ما عجز التاريخ عن تحقيقه، ولكنَّ الأمارات الواقعية تشير بوضوح إلى أنَّ هذا (الإنجاز) ليس إلَّا مفردة من مفردات استراتيجية التخدير.
بحَّ صوتُ دريد لحَّام، وخارت قوى عبد الحسين عبد الرضا، وعلت التجاعيد وجه عادل إمام، فماذا غيَّروا في أنظمة الحكم أو وعي الجماهير؟
هي ليست أكثر من مواقع للتنفيس، ولمصلحة جور الأنظمة، لا الشعوب؛ فمسرحية مثل كاسك يا وطن للمثل السوري دريد لحَّام لا زالت تطرق أسماعنا بمشاهدها القوية جدًّا، كما ولا زلنا نظهر إعجابنا بجرأة الرجل وتعريض نفسه لخطر الاعتقال والعقاب بسبب مسرحية أو فيلم، وبالرغم من ذلك لم يتغير حاكِمٌ ولم تأتي إصلاحات على نظام، وكذا لم يتغير حال شعب لا على المستوى المعيشي ولا على المستوى الثقافي والفكري، وكل ما في الأمر أن المواطن كلَّما أراد ابتسامة نصر موهوم، قصد ملفاته المرئية وأدر مشاهد لهذا الممثل أو ذاك، ثُمَّ يتنهدُّ ويطلق زفرةً يريد منها صرخةً تقول: أنا فاهم!
لا تتوقف (مسرحية المسرحية) عندَّ هذا الحدِّ، بل تتجاوزه عندَّما يُفلسِفُ الممثلون والمخرجون والمنتجون هذا النوع من الفنون التمثيلية ويجعلون لها مدارس يربطونها بتاريخ الحضارات، فتؤلَّف الكتب وتُعدُّ رسائل الماجستير والدكتوراه في رقي هذا الفن وكلاسيكيتة المتجدِّدة، وبالفعل، يعيش الناسُ حالةً متقدِّمة من السُكر، والسُكر عن السُكر، فيمارسون السُكر من منطلقات الوعي والثقافة والفهم والحكمة!
نعم، للمسرحيات دور مهم في التغيير، وكذلك للأفلام والخُطَبِ والمسيرات، ولكن، لو علِمت، أو احتملت أنظمة الحكم أنَّ لهذه الثقافات دور قد يكون في زمن من الأزمنة، لما سمحت بها، ولسلخت من يفكِّر في مثلها، ولكنَّ الحال أنَّها مثل لعبة المسدس أو أدوات الزينة بيد الأطفال، فهم يتوهَّمُونها حقيقة، فيتفاعلون معها بشكل مذهل، ولكنَّها في نهاية (المسرحية) ليست إلَّا (مسرحية).
للتغيير مفاتيح، ومنها الوعي، وللوعي مفاتيح، منها احترام النفس، ولاحترام النفس مفاتيح، منها المعرفة، وللمعرفة مفاتيح، منها الإيمان، وللإيمان مفاتيح، من أهمِّها أن يكون الآدمي إنسانًا.. وإلَّا فلا معنى لا لمسرحية ولا لخطاب ولا لفيلم ولا لمسيرة أكثر مما يريد من يسمح لها.
السيد محمَّد علي العلوي
3 من ذي القعدة 1437 هجرية
7 أغسطس 2016 ميلادية