مفاتِيحُ الحُبِّ.. ولا شيء أجمل مِن الحُبِّ
كان من المفترض أن أتطرَّق في المقدَّمة إلى بعض الكلمات التي تدل على مفاهيم سامية يطلبها الإنسان بحثًا عن الكمال، ولكِنَّني صُدِمتُ بتحول الكثير من الكلمات إلى ساحة الابتذال والتضييع، فبعد أن كانت مطلبًا إنسانيًّا، أصبحت اليوم أداة لتسويق التِيه والترويج للانحدار!
فالشجاعة اليوم هي ما كان بالأمس تهوُّرًا واستهتارًا، والصدقة أصبحت من أساسيات البرامج الانتخابية أو الترويجية للأشخالص والشركات، والمروءة باتت لمخادعة الفتيات والضحك على ذقون الطيبين..
الحُبُّ..
الحبُّ، وبعد ما كان من أسمى المعاني التي طالما ابتنت عليها أروع القصائد والأشعار، أصبح اليوم مطيَّةً للرذيلة والتحلل والفجور باسم المدنيَّة والتحضُّر والانفتاح..
كلمات ارتبطت بالله سبحانه وتعالى، فأنزلها البشر لإشباع أنانيَّاته دون مراعاة لأدنى قواعد الإنسانية.
هنا، دعوَةٌ لترك الدنيا دقائق معدودة، ثمَّ فليراجع كلٌّ منَّا نفسَه..
حديث عن أبي جعفر الباقر إمامنا محمد بن علي (عليه السلام)، يقول فيه: “لمَّا خلَقَ اللهُ العقْلَ استنطَّقه، ثُمَّ قال له: أَقبِل فأقْبَل، ثُمَّ قالَ له: أدْبِر فأدبَر.
ثُمَّ قال: وعِزَّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقًا هو أحبُّ إليَّ منك، ولا أكملتُك إلَّا فيمن أُحِبّ، أما إنِّي إيَّاك آمُر، وإيَّاك أنهى، وإيَّاك أُعَاقِبُ، وإيَّاك أُثيبُ”. (الكافي للكليني، الحديث الأول من كتاب العقل والجهل).
في جلسات علميَّة توزَّعت عليها سِتُ ساعات وأكثر، لم نتمكَّن من استيفاء شيء من الخطوط العريضة لهذا الحديث العٍتروي العظيم، ولكِنَّني في هذه السطور أُلفِتُ لإثارة راقية جاد بها الأخ الأستاذ سماحة الشيخ صالح الجمري (حفظه الله) في خصوص مسألة (الحبِّ)، وملخَّصها أن تعالوا لنرى الصفات التي يَكمُل بها الإنسان فيكون عرضَةً لحُبِّ الله سبحانه وتعالى..
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
الإحسان، المبالغة في التوبة، التطهر، اتِّباع الرسول (صلى الله عليه وآله)، التقوى، الصبر، التوكُّل على الله تعالى، القِسط، وحدة الصف في مواجهة الظالمين قربة إلى الله جلَّ شأنه..
تلك أهمُّ مفاتيح الظفر بحُبِّ الله تبارك ذكره، ذلك الحُبُّ الذي يستوجِبُ إكمال العقل بمباشرة إلهية موعودة (ولا أكملتُك إلَّا فيمن أُحِبّ)، وكماله يعني الدخول في طبقات العصمة المقدورة لغير الأربعة عشر المعينين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)؛ فهم حقيقة العصمة ومعدِنها.
ولكن، قد يتوهَّم بعضٌ القرب من الله تعالى، والحال خلاف ذلك (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، وحتى نسلم من مثل هذه الوقعات المُهلِكة، فنلتأكد من بعدنا عن الصفات التي لا يُحبُّ الله تعالى المتَّصفين بها، وهي كما ورد في الكتاب العزيز:
وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا
إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ
إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
التعدِّي، الإفساد، الإمعان في الكفر وارتكاب الإثم، الاختيال والمفاخرة، الإمعان في الخيانة، الجهر بالسوء (إلَّا من ظُلِم)، الإسراف، الخيانة، الاستكبار..
تلك من أهمِّ المغالق التي تبعد الإنسان عن محبَّة الله تعالى، وبالتالي يُدبِر عن التعرض للكمال العقلي الذي وعد الله تعالى به من أحبَّهم من العباد.
ما يُلفتُ النظر، أنَّ الطريق إلى الكمال العقلي رهين القدرة على تجاوز (الأنا) وشهواتها حتى ينصرف الإنسان عن الظلم والخيانة والتعدي وما نحو ذلك، فيكون مستعِدًّا لاستقبال فضائل السلوك مثل الاحسان واستدامة التوبة والتقوى والصبر وما في فلكها.
هذا صحيح، غير أنَّ الإنسان –في الغالب- يضعُفُ عن مواجهة نفسه الأمَّارة وما تحمل من شهوات متوثِّبة لا تستكين ساعة حتَّى تجمح ساعات، ولا تنفك تجرُّ إنسانها من هاوية إلى هاوية، وهذا ما استدعى تدخُّل اليد الإلهية بمعالجات ينبغي الالتفات لها بدقَّة ونباهة..
عن أبي حمزة، قال أبو عبد الله (عليه السلام): “يا ثابت، إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا غثَّه بالبلاء غثَّا (أي: عصره عصرًا حتى كما يُعصر الجرح لإخراج القيح منه)، وثجَّه به ثجَّا (أرسله بتدفق)، وإنَّا وإيَّاكم لنصبح به ونمسي”. (كتاب المؤمن – الحسين بن سعيد – ص 25).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا بعث إليه ملكًا فيقول: إسْقِمْهُ وشدِّد البلاءَ عليه، فإذا برأ من شئٍ فابتله لِما هو أشدُّ منه وقوي عليه، حتَّى يذكرني، فإنِّي أشتهي أن أسمع دعاءه، وإذا أبغض عبدًا وكَّلَ به ملكًا، فقال: صَحِّحْه، وأعطه كي لا يذكرني، فإنِّي لا أشتهي أن أسمع صوته”. (كتاب المؤمن – الحسين بن سعيد – ص 26).
وعن سفيان بن السمط، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه وتعهَّده بالبلاء، كما يتعهَّد المريضَ أهلُه بالطرف، ووكَّل به ملكين، فقال لهما: إسقما بدنه، وضيِّقا معيشته، وعوِّقا عليه مطلبه، حتَّى يدعوني، فإنِّي أُحِبُّ صوته، فإذا دعا قال: اكتبا لعبدي ثواب ما سألني فضاعفاه له حتَّى يأتيني، وما عندي خيرٌ له.
وإذا أبغض عبدًا وكَّل به ملكين، فقال: أصِحَّا بدنه، ووسِّعا عليه في رزقه، وسهِّلا له مطلبه، وأنسِياه ذكري، فإنِّي أُبغِضُ صوته، حتَّى يأتيني وما عندي شئٌ له”. (كتاب التمحيص – محمد بن همام الإسكافي – ص 55 – 56).
عن محمد بن جعفر التميمي، عن الصادق (عليه السلام) – في حديث – أنَّ رجلًا قال لإبراهيم الخليل: إنَّ لي دعوة منذ (ثلاث سنين) ما أُجِبتُ فيها بِشئٍ، فقال له إبراهيم: “إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا احتبس دعوته ليناجيه ويسأله ويطلب إليه، وإذا أبغض عبدًا عجَّل دعوته وألقى في قلبه اليأس منها”. (وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 7 – ص 62 – 63).
فهل تكون البلاءات التي تصيب المؤمنين وتُصبُّ عليهم صبَّا، مداعاةً للانكسار والانزواء؟
بالطبع لا، فهي رحمة جليلة من الله سبحانه وتعالى، يراعي بها المؤمن، ويحرسه بانتصابها من مزالق هذه الحياة الدنيا التي تبعده عن الحب الحقيقي، وبالتالي تصرفه عن التعرض للكمال العقلي.
عندما نعي المعادلة، ونفهم أطرافها، فإنَّ طبقات من الغشاوات التي تخنق قلوبنا، تزول من تلقاء نفسها، فتنكشف لنا الكثير من الحقائق، ونقف على شيءٍ جمال الصورة، وهنا أترك القارئ العزيز مع هذه الآية الرائعة، ليتدبَّرها في هدوء وراحة بال..
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
السيد محمد علي العلوي
3 أكتوبر 2015 ميلادية