الظهور العَقَدي في آيَةِ المُباهلة

بواسطة Admin
0 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين

(الظهور العَقَدي في آيَةِ المُباهلة)

هذه سطورٌ قليلة كتبتُها عن ما تدبَّرته تعقُّلاتي الضعيفة في آية المباهلة الشريفة، وقد بدأتها بتفكيك ثُمَّ سبك على ما انتهيتُ إليه، وهي موجزة إشاريَّةٌ غير مبسوطة.

• التفكيك:

قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).

– يرجع الضمير في (فيه) إلى الحقِّ، وذلك لجهات ثلاث:

الأولى: فهو أقرب الأسماء.

الثانية: لدلالته على موضوع الخطاب وهو خلق النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام).

الثالثة: لِما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.

– تُرجِعُ (الفاءُ) في (فقل) دعوةَ المباهلة إلى أمرين:

الأول: استمرارُ الخصمِ في المماراة دون اذعان للحقِّ.

الثاني: اضطرار الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) للاستمرار في مجادلتهم مع الخوف من طروِّ الشكِّ في تدخل القوة الغيبية الحاسِمَةِ.

– قوله تعالى (تعالوا..):

تعالَ: فِعلُ أمرٍ يدُلُّ على طلب الإقبال من الأدنى إلى الأعلى، ثُمَّ استُعمِل في مُطلَق طلب المجيء توسُّعًا.

ما أراه، أنَّ المعنى الأصل أكثر مناسبة للمقام، وهذا ما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى.

– حذف المُسند في قوله (نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ):

الأصل أن يقول: (ندعُ أبناءنا وتدعون أبناءكم، وندعُ نساءنا وتدعون نساءكم، وندعُ أنفسنا وتدعون أنفسكم).

ولكنَّهُ حَذَفَ المسند، وللحذف أسباب ذُكِرتْ في البلاغة، منها:

– الإيجاز المحكم مع وجود القرينة الدالة على المحذوف، كقوله تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، والأصل (ليقولن خلقها الله).

– محذور العبثية، كما في قوله عزَّ وجل (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، والأصل (ورسوله بريء من المشركين)، ولكنَّ ما برأ منه الله تعالى فقد برأ منه الرسول (صلى الله عليه وآله) ضرورةً، فعدم الحذف موجِوب للعبث.

– الشِدَّة والحسم، كما في قول الشاعر: “نحن بما عندنا وأنت بما … عندك راضٍ والرأيُ مختلف”، والأصل: نحن بما عندنا راضون، ولكِنَّه حذف المسند لبيان شدَّة كاشفة عن أنَّ الالتقاء بيننا متعذِّرٌ بسبب هذا المراء والعناد.

وغيرها من الأسباب المذكورة في محلِّها، وما أُرجِّحه هو (الشدَّة والحسم) لِما سأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى، وهو لا يعارض الإيجاز كما ذكر العلَّامة الطباطبائي في الميزان، وكذا غيرُه من المفسرين.

– إشراك الأولاد والنساء:

المحاورة كانت بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين نصارى نجران، فلماذا أدخل (صلى الله عليه وآله) الأولاد في والنساء في المعادلة؟

– فائِدةُ (ثُمَّ) في قوله تعالى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ):

(ثُمَّ) حرفُ عطفٍ يفيد التراخي الرُتبي بين المعطوف والمعطوف عليه، كما في قوله: زرعتُ القمحَ ثُمَّ حصدْتُّهُ.

فَلِمَ هذا الإمهال بين الاجتماع للمباهلة وبين المباهلة؟

• السبك:

الآيات: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).

لغرابة مولد نبي الله عيسى (على نبيِّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) ادَّعى النصارى أنَّه ابن الله عزَّ وجلَّ (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)، فدخل معهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مناقشة هذه الدعوى وردِّها بما جاءه من الحقِّ (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، غير أنَّهم استمروا على ما هم عليه مصرِّين مجادلين.

إنَّ لهذه الحالة موجبات مالم يتدَّخل الغيب لحسم القضية، ومنها وصول الإنسان إلى نقطة اليأس وربَّما الشك (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، ونقصد بالشكِّ الشكَّ في التدخل الغيبي الحاسم، وليس الشك في الحق.

وحانت الساعة، فقال عزَّ وجلَّ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)، والضمير في (فيه) يعود على الحقِّ الذي يُجسِّده وجود المعصوم (عليه السلام) تجسيد مطابقة، ولأنَّه كذلك كانت المباهلة، وهي حقٌّ بلا ريب، ولا يُتصوَّرُ التعارض بين نفس الحقوق ثبوتًا، ومع المطابقة المذكورة فالتعارض غير متصوَّر إثباتًا.

كان كلُّ ذلك مقدِّمة للدعوة إلى المباهلة (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ)، وهي –كما أفهم- مقدمِّة كشف، أو كما يُعبَّر بالواجب الطريقي، ولذلك جاءت (الفاء) مُفَسِّرة للأمر (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ)، وكاشفة عن أنَّ استمرارهم على عنادهم وعدم جدوى المناقشة العلمية معهم قد أوجب دعوتهم للمباهلة.

وبعد أن كان موضع الحقِّ معلومًا، وهو نفس الرسول (صلى الله عليه وآله) مطابقةً، كان التوجيه من الله تعالى بدعوة نصارى نجران للمباهلة بفعل الأمر (تعالوا)، هذا وقد كان منه تعالى التعبير عن طلب المجيء بـ(هلم) كما في قوله (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ)، كما وعبَّر عن فعل المجيء بـ(الإقبال)، كما في قوله (قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ).

في مقام المباهلة المعيَّنة، وبالانتباه إلى مختلف أبعادها الموضوعية قال (فَقُلْ تَعَالَوْا)، أي أَقبِلُوا إلى علوِّنا، وليس مجرَّد طلب المجيء كيفما كان، فنحن هنا نُقَدِّمُ أبناءنا ونساءنا دون تردُّد على الإطلاق، وإلَّا فلستم من أهلها.

وينسجم مع هذا التوجيه حذف المُسند الكاشف في المقام عن شدَّةٍ وحسمٍ واستقلالٍ بقدَرِ الطرف المقابل، ولا يمكن أن يكون غير ذلك بعد (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ…).

ومن هُنا ينكشف أمرُ إدخال الأولاد، وهما الحسنان (عليهما السلام)، والنساء، وهي السيدة الزهراء (عليها السلام) جمعًا تعظيميًّا؛ فالحق يدور معهم ويدورون معه، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “الحقُّ مع علي، وعلي مع الحقِّ، لن يفترِقا حتَّى يرِدا عليَّ الحوض”، وهذا جارٍ فيهم جميعًا (صلوات الله وسلامه عليهم)، وقد استوجب كون المقام مقام حقِّ يتعلَّق بتنزيه الله سبحانه وتعالى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أن يحضر في المقام التجسيد التكويني الواقعي للحقِّ في عالم الإثبات.

وبهذا، فإنَّ آية المباهلة في نفسها وفي مختلف أبعادها الموضوعية مظهرٌ تامُّ الأركان لعُمقِ عقيدة التوحيد بكامل أصولها، وليس في الوجود الثقافي والفكري أكثر خطورة من العقيدة؛ فهي الفاروق يوم الموعد الأكبر، ولذا جاء العطف بـ(ثُمَّ) بعد الاجتماع للمباهلة، إشارة إلى خطورة الموقف وما تستوجبه من تريّث وعمق نظر، وإلَّا فمآل المعاندة والاستعجال مع الإصرار عن الخطأ لعنة من الله تعالى ودخول في عموم (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ).

أسألُ اللهَ تعالى القبول والتسديد.

السيد محمد علي العلوي
في ذكرى يوم المباهلة
24 من ذي الحجَّة 1436 هجرية

8 أكتوبر 2015 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.