لست أتحدث عن إسقاط النظام ولا عن إصلاحه، فكلاهما على مسافة واحدة مما أريده من هذه السطور..
سياسي كنت أم ميداني تخوض المواجهات، فأنت من حقك تمامًا أن تُبْرِزَ فكرك وتطرح ثقافتك وتبين للناس خياراتك وتدافع عنها بتقوية أدلتها أمام ما ينقضها من أدلة تقابلها، كما وأنه من حقك تمامًا الدعوة إلى فعالياتك وما تقرره من أنشطة وتحركات تخدم ما أنت عليه، ولكن الذي لا ينبغي من أحدٍ، سياسيةُ وضع المطلوب في قوالب العاطفة ومثيرات الأحاسيس وأدوات الفرز الحاد بين الظلمة والنور!!
نعم، فإن المحارب في ساحات المواجهة يحتاج إلى ما يحرك كوامن الشجاعة والإقدام في داخله لسد الطريق أمام شيطان الجبن والتخاذل، ولذلك كانت الخُطَبُ الحماسية وكان فَنُّ الأراجيز، ولكن هذه الأخيرة من الخطر جدًا أن توظف في غير محلها، فإن المحارب وبعد أن يحسم خياره بالمشاركة عن قناعة ودراية وعلم، يكون حينها في حاجة إلى تدعيم عقله بقوة الروح وعلو المعنويات، أما الخطورة فإنما هي في تقديم هذه على تلك، ومحلها تحديدًا عندما يكون خياره بتأثير مباشر من قوة روحية وعلو معنوي من صناعة التحشيد العاطفي المغلف بدقة إعلانية إعلامية مدروسة.. وربما موروثة..
أي حركة وفي أي اتجاه كان، فإنه لا يليق بالإنسان بما هو إنسان أن يُقْدِمَ عليها إلا عن علم ودراية حتى لو كان الداعي إليها هو نفس المعصوم (عليه السلام)، فقد أطلقها أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل: “يا كميل، ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة”، وقال (عليه السلام): “قيمةُ كل أمرئ ما يحسنه”، ومن هنا فإن أسئلةً لا ينبغي لعاقل أن يتجاوزها إلا بعد استيفاء الإجابة عل كل واحد منها..
ما هذا الذي يُدْعَى إليه؟ ماهيته؟ طبيعته؟
لماذا أُقدِمُ عليه؟ موضوعية الأسباب؟ الغايات؟
لماذا هذا الاهتمام به؟ نوعية المصالح؟ مداها؟
ما هي نسبة التوافق بين الغايات وطبيعة ما يُدْعَى إليه؟
لماذا ينبغي علي المشاركة؟ وماذا لو لم أشارك؟
مجموعة من الأسئلة توفر للإنسان معرفةً تعطي للحركة قيمةً بِقَدَرِهَا، وهذا في الغالب مفقود جدًا، وقد يكون ضعيفًا عند أحسن الأحوال في ما تُنْتجُه الخطابات الجماهيرية التحشيدية وتوابعها من دعايات وإعلانات خصوصًا إذا كانت على قدر من العلمية والتوجيه من حيث التصميم والكلمات والألوان والزوايا وما نحو ذلك مما يؤثر مباشرة في مشاعر الإنسان، ومع تكراره وبشكل مدروس أيضًا فإنه وبالميزان العلمي يُغَيِّبُ العقلَ الفردي في العقل الجماهيري الذي كونته منظومة الخطاب التحشيدي، وهذا ليس محله السياسة فقط، فهو موجود في مختلف الميادين حتى أصبحت المجتمعات مشغولة بطوفان من الأوهام في الوقت الذي تعمل فيه قوى التسيير الإداري العالمي على تحريك وتحقيق مشاريعها لتنساب ثقافات وقناعات دون أدنى مقاومة ثقافية، أو ربما في بعض الحالات تكون إلا أنها ضعيفة لا تقوى على غير الندب والعويل!!
لماذا وكيف ومَنْ ومتى، وثم: ماذا؟
من بعدها يختار العقل بتجرد عن التأثيرات العاطفية ويسعد بتحمل مسؤولية نفسه مصيبًا كان أو غير ذلك، فالقضية ليست في الصحة والخطأ، بل هي في حرية الفكر وتخلصه مما ينبغي له التخلص منه..
وهنا مما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل، أرجو من القارئ الكريم تدبر الكلمات وخصوصًا عندما يتحدث (عليه السلام) عن العلم..
“يا كميل، مات خُزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة.. هاه [و] إن ههنا – وأشار بيده إلى صدره – لعلمًا جمًا، لو أصبت له حملة، بلى أصبت لقنا غير مأمون، يستعمل آلة الدين في الدنيا ويستظهر بحجج الله على خلقه وبنعمه على عباده ليتخذه الضعفاء وليجة من دون ولي الحق، أو منقادًا لحملة العلم لا بصيرة له في أحنائه، يقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك، فمنهوم باللذات، سلس القياد أو مغري بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين، أقرب شبهًا بهما الانعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه..”.
لا بد ان نعرف.. لا بد أن نفهم.. لا بد أن نعي.. فنحن لا نقبل أن نكون أنعامًا سائمة، والكلام كما قلت في مختلف السوح والميادين مطلقًا، بل حتى إذا أراد أحدنا أن يشتري قميصًا بتصميم جديد، فعليه أن يسأل قبل ابتياعه.. لماذا؟
السيد محمد علي العلوي
15 ربيع الثاني 1435 هجرية
15 فبراير 2014 ميلادية