مدخل:
بعد منعطف الهجرة من مكة إلى المدينة قام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بمجموعة من الأعمال والإجراءات كان من أهمها بناء المسجد بأيدي المسلمين مع قائدهم المعظم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) في عمل جماعي تعاوني حقق نتيجتين أساسيتين:
الأولى: كان أهل المدينة قبل قدوم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يجتمعون كل في حيه، وفي نوادي متعددة فيتحدثون ويتسابقون في الشعر وغيره، وبعد بناء المسجد توحدت الأندية فيه.
الثانية: صنع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من المسجد ملتقى علميًا زاهرًا عرفه المسلمون محلًا للعبادة ودارًا للحوارات والمناقشات ووضع الاستراتيجيات والخطط، فضلًا عن القاء وتلقي الدروس وما نحو ذلك.
ومثال ذلك ما رواه ابن عباس أن الرسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) “ذات يوم وهو في مسجد قباء والأنصار مجتمعون: يا علي، أنت أخي وأنا أخوك، يا علي أنت وصيي، وخليفتي، وإمام أمتي بعدي، والى الله من والاك، وعادى الله من عاداك، وأبغض الله من أبغضك، ونصر الله من نصرك، وخذل الله من خذلك. يا علي، أنت زوج ابنتي، وأبو ولدي. يا علي، إنه لما عرج بي إلى السماء عهد إلي ربي فيك ثلاث كلمات، فقال: يا محمد. قلت: لبيك ربي وسعديك، تبارك وتعاليت. فقال: إن عليًا إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب المؤمنين”[1].
وهذا كلام علمي دقيق في العقيدة من جهة وله بعد سياسي وإداري واضح بما يدل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يحرص على بث العلوم والمعارف بين المسلمين في ملتقياتهم، ومن هنا كان منه (صلى الله عليه وآله) استثمار المسجد لمثل هذه الأنشطة والفعاليات الرسالية التي ترفد المجتمع بروح العلم والفضيلة.
ومن الجدير أن نذكر اهتمام علماء التربية بمواقع التعليم والتلقي من حيث البناء والألوان والجو العام الذي يميز موقع عن آخر، وبما أن للمسجد قدسية خاصة يكتسبها من خلال مجموعة من الأحكام الشرعية التي توفره على حالات من الطهارة والنقاء، كان من الأماكن المثالية لتلقي العلم والمعرفة لما ينعكس من أجوائه الإيجابية على نفوس رواده وقلوبهم.
وبين المسجد والمأتم التقاء محوري في عنوان (الإحياء)؛ إذ أن المسجد مكانًا لإحياء أمر الله تعالى على سعته، وكذلك المأتم كان لإحياء أمر الله تعالى على سعته في أهل بيت النبوة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وبذلك يتميز المسجد عن المأتم في بعد الأحكام الشرعية الخاصة بعنوان (المسجدية)، وإلا فجوهر الغاية واحد كما هو واضح.
مائز مأتمي:
عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: “سمعتُ أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: رحم الله عبدًا أحيا أمرنا.
فقلت له: وكيف يحيى أمركم؟
قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا”[2].
وهذا هو البعد الذي أشرنا إليه وهو مشترك بين المسجد والمأتم، وأما المائز فهو ما نستفيده من مجموعة من الروايات عن العترة الطاهرة، ومنها ما جاء عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: “أيما مؤمنٍ دمعتْ عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) دمعةً حتى تسيل على خده، بوأه الله بها في الجنة غُرفًا يسكنها أحقابًا، وأيما مؤمنٍ دمعتْ عيناه دمعًا حتى يسيل على خده لأذى مسنا من عدونا في الدنيا، بوأه الله مبوء صدق في الجنة، وأيما مؤمنٍ مسه أذى فينا، فدمعت عيناه حتى يسيل دمعهةًعلى خديه من مضاضة ما أوذي فينا، صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار”[3].
وهذا ما يثيره المنبر الحسيني ومن يرتقيه من خطباء ومنشدين طلبًا لإحياء عقل العاطفة في مجاميع المؤمنين ليلتقي بعاطفة العقل فيهم فتتشكل المنظومة الإنسانية وتتحرك معلنة الاستعداد التام لمواصلة طريق الرسالة الخالدة بعد الرسول الأكرم والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ومع الفقهاء والعلماء وكل من يحمل هَمَّها بصدق وإخلاص.
وبذلك نتمكن من استخلاص ثلاث رسائل رئيسية للمأتم الحسيني:
الأولى: اجتماع المؤمنين في موقع تتحقق فيه الموازين التربوية وبجدارة تامة.
الثانية: البناء العقلي والفكري.
الثالثة: استثمار الحقيقة العاطفية في الإنسان لصالح المشروع الرسالي العظيم.
مسألتان:
الأولى: الثبوت والإثبات:
علمنا أن للمأتم الحسيني رسائل ثلاث أساسية هي المقوم لمفهومه الأصل، ولكل رسالة صورة ثبوتية تامة عالية المقام، وهي التي إن مشى الخطباء والمنشدون للتعرف عليها والإحاطة بتفاصيلها ما استطاعوا إليه سبيلًا، ثم أنهم يحولون معارفهم إلى رسائل علمية موجهة في محاضرات وقصائد ومحاورات وما شابه، فإنهم بذلك ينقلون ولو على نحو الإجمال الصورة الثبوتية إلى فعل إثباتي يحقق قوله (عليه السلام): “يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا”.
وهذا العمل يحتاج إلى مقدمات من نوع مقدمية الوضوء للصلاة، ومرتكزها الانفتاح المسؤول من المتصدين للعمل المنبري على مجموعة من العلوم، أذكر أهمها:
1- علوم اللغة العربية، فلا يحسن من الخطيب أو المنشد الإساءة للغة القرآن العظيم وللسان أهل البيت (عليهم السلام) بأخطاء لا ينبغي أن تصدر من أمثالهما.
2- علوم القرآن الكريم، وهذا من مرتكزات المعارف عند الخطيب خاصة، بالإضافة إلى:
3- علم الحديث وما يتصل به، فإن العاصم من الضلال التمسك بأمرين: الكتاب، والعترة. وليست وظيفة المأتم إلا تعميق الصلة من المؤمنين بالثقلين، ولذلك فإن للقرآن والعترة أهمية بالغة في معارف الخطيب.
4- العلوم الإنسانية وعلى رأسه علم الاجتماع؛ لما فيه من تحريك للعقليات ودفع لها نحو الفهم الصحيح للتاريخ والحاضر، والتمكن من استشراف المستقبل على أسس علمية واضحة.
5- ننتظر من خطباء المنبر الحسيني التحول من مستوى النقل المجرد لآراء الآخرين إلى مستوى الفكر والنظر والقدرة على صياغة أطروحات ونظريات يثرون بها الفكر العام لجماهير الشيعة.
أما بالنسبة للمنشدين فقد أصبحوا صاغة للذوق الجماهيري العام، فهم مسؤولون مباشرة عن الارتقاء بالثقافة الجماهيرية، وهذا يستدعي منهم الاهتمام باختيار كلمة القصيدة ولحنها وطريقة ألقائها، فالقضية في غاية الأهمية ولا ينبغي التهاون فيها.
الثانية: الفاعل والقابل:
يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)[4].
وبعد رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) انقلب السواد الأعظم من المسلمين على غدير خم وتركوا الوصية بالثقلين لصالح بيعة السقيفة، هذا وقد كان (الفاعل) للتبليغ الرسالي قمة البشرية وسنام الإنسانية الكامل الأكمل المكمل من الله تعالى محمد (صلى الله عليه وآله)، فبالضرورة إذن أن الخلل في الناس (القابل) الذين لم يتمكنوا من استيعاب قداسة الرسالة السماوية في منظومة القرآن والعترة.
وحتى تتم الغاية وتتحق الأهداف لا بد من صحة الفاعل وسلامة القابل، ومن هنا نقول:
إذا كان الخطيب على أعلى المستويات العلمية، وكان مؤهلًا لإيصال الرسالة الحسينية بالبهاء المطلوب، فإنه لن يحقق شيئًا ما لم يكون المستمع مستعدًا للتلقي استعدادًا علميًا سليمًا، وهذا الأخير رهين استشعار مسؤولية إحياء أمر أهل البيت (عليه السلام) من نفس المتلقي فردًا وجمهورًا، فإن الرسالة الإسلامية كما أنها تطالب المبلغين بالسعي للظفر بأعلى المراتب العلمية والكفاءة التبليغية، فإنها أيضًا تطالب الجماهير بتهيئة الأرضية الصالحة في نفوسهم لتلقي المعارف الإسلامية في أجواء المأتم الحسيني الشريف.
الجماهير والأجواء الصانعة:
يقول تعالى (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ)[5].
واضح أن ما يبديه المخادعُ له زينة وجمال ورونق وطلاوة يريد بها خداع الآخرين، فينجح، ولكنه لله والمؤمنين مخادع فاشل، وكيف كان، فإن هذه الطائفة من الناس تبدع في عملها كلما تمكنت واستقوت وتوفرت على وسائل الإعلام والتواصل مع الناس، وهنا أذكر مشهدًا علميًا:
في بعض القنوات الفضائية المتخصصة في برامج الأطفال والناشئة يُعرَضُ برنامج مسابقات غني جدًا بالمعلومات المنوعة، وهذا مما نطلبه لأبنائنا، ولكن البرنامج ليس مجرد معلومات ومسابقات قد تكون هادفة، ولكنه أيضًا ديكور خاص وأثاث منتقى بعناية، بالإضافة إلى أن مقدمة البرنامج فتاة حسناء لباسها غربي تمامًا وتسريحة شعرها كذلك، وإلى جانبها شاب يلبس البنطال الأمريكي والقميص الشبابي، يمازحها ويفاكهها في الوقت الذي يتقاسمان إسعاد الأطفال ورفدهم بالمعلومات الجميلة!
يربط الطفل ويقارن بين ما يوفره له هذا البرنامج وما يوفره له المجتمع المنزلي والمدرسي وما نحوهما، وفي الغالب رجحان كفة البرنامج على ما سواه، والرسالة الأهم: أن المعلومات والترفيه وراحة النفس كلها أتلقاها من فتاة غير محجبة وشاب يمازحها وربما قبلها أيضًا، وأما الصراخ والخوف والقلق فهو من أمي المحجبة وأبي الملتحي ومدرسي العصبي!!
هذا النوع من الرسائل الموجهة هو في الواقع جوهر الإعلام العالمي الذي ظاهره جذاب وباطنه سم زعاف، والأمثلة كثيرة جدًا، تحاصر المؤمنين وغيرهم من مختلف الجهات وفي مختلف الميادين، وبتقنيات ومهارات متقدمة جدًا، كما وأن القائمين على صناعات الثقافات وعولمتها يتمتعون بقدر عال من الكفاءة والمهنية، بل والتفرغ لما هم فيه والاستمتاع به، ولذلك هم مبدعون.
الجماهيرُ صنيعةُ الأجواء الثقافية، وهذا أمر طبيعي، وبما أن الثقافات المصاغة من الدول الكبرى مفروضة على الشعوب بقوة العولمة وأدواتها الساحرة، فإن مقاومتها أو مجابهتها لا يمكن أن تكون إلا بأحد طريقين:
الأول: التوفر على أدوات العولمة الثقافية التي تنافس أو تتفوق على تلك التي تتوفر عليها مصانع الثقافات المضادة.
الثاني: تخليص الناس من سيطرة التسلط الثقافي.
المأتم الحسيني وقرار المواجهة:
يقول بعض علماء الإجتماع في خصوص الوعظ الديني أنه مضيعة وقت في قبال آلة العولمة الثقافية الهائلة التي تحرك العالم كيفما تشاء وحيثما تريد، فالواعظ يتحدث عن حرمة الغناء –مثلًا- في الوقت الذي يتراقص فيه العالم من المشرق إلى المغرب على أنغام الموسيقى شرقية وغربية، وهناك من يستمع إلى الوعظ ويؤمن بما يقال، إلا أنه لا يصمد أمام الثقافة المعولمة إلا مدة سويعات يعود بعدها لسيرته الأولى.
نعم، إذا أردنا خوض المواجهة على نحو الند للند فعلينا أن نجعل من المأتم مؤسسة إلى جانب مؤسسات أخرى تشكل جميعها منظومة العمل الإعلامي المؤسس على رؤية إسلامية صحيحة لها من الجاذبية ما يتجاوز بها الثقافات الغازية، وهذا ما نفتقر إليه اليوم في الوقت الذي تشتد حاجتنا إليه.
ومن هنا، فإن الطريق الوحيد – في نظري – أن يتطور الطرح المنبري تطورًا نوعيًا وصولًا للقدرة والتمكن من قلب المعادلة، وهذا يحتاج إلى الإلمام بمعارف وعلوم دقيقة تكون واسطة لتخليص العباد من الانجذاب للشرور المحيطة، وأكرر بأن هذا متعذر ما لم يصحح (القابل) قابلياته.
وكيف كان:
فإن الإمام الحسين (عليه السلام) حصر خروجه المقدس في غاية واحدة، فقال في رسالته لأخيه محمد بن الحنفية: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية، أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”[6].
ومن المفترض أن يكون إحياء عاشوراء الحسين (عليه السلام) على نفس نسق الغاية التي من أجلها ضحى الحسين (عليه السلام) بروحه وعياله وأصحابه، وهي:
1- طلب الإصلاح.
2- الأمر بالمعروف.
3- النهي عن المنكر.
4- السير بسيرة الرسول الأكرم ووصيه أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما.
وهذه هي الرسالة العملية الاستراتيجية الواضحة لعملية إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، فمن قبلها “بقبول الحق فالله أولى بالحق”
السيد محمد علي العلوي
25 ديسمبر 2013 ميلادية
[1] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 433 – 434
[2] – عيون أخبار الرضا (ع) – الشيخ الصدوق – ج 2 – ص 275
[3] – مدينة المعاجز – السيد هاشم البحراني – ج 4 – ص 152 – 153
[4] – سورة النمل 80
[5] – سورة البقرة 9
[6] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 44 – ص 329 – 330