قبل قرابة الثلاثين سنة عرضت تلفزيونات الخليج مسلسلا من انتاج الأخوة في الكويت بعنوان (درب الزلق)، وقد كان من المسلسلات الناجحة جدا ولا زال نجاحه متواصلا حتى اليوم لأسباب عدة منها خلوه من الابتذال وقلة الحياء، فهو مسلسل اجتماعي جميل في قالب كوميدي راقي..
رحم الله تلك الأيام ورحم الله بساطتها..
في بعض مقاطع (درب الزلق) وبعد أن حصل الأخوان وأمهما على قيمة تثمين البيت وكانت ٣٠٠ ألف روبية دارت الحوارات داخل البيت (المثمن) حول المجالات التي من الممكن أن يستثمر فيها مبلغ (التثمين) فكان مما طرحه الأخ الأكبر (سعد) أن يقوموا بفتح مطعم متخصص في بيع (الباجة) وأن يفتحوا بجانبه مخبزا يتظاهرون بأنه ليس لهم، فإن نجح المطعم تبعه المخبز في نجاحه حيث إن الخبز من المكونات الرئيسية لصحن (الباجة)، إن فشل المطعم بقي المخبز لأن استعمالاته أعم من (الباجة) بكثير، هذا من جانب ومن جانب آخر يحققون مطلب إبعاد (العين) عنهم حسد الحاسدين.
وكان في مخطط (سعد) التوسع بمطعم (الباجة) حتى يحولونه فندقا (للآكلين) بعد أن يثقل رؤسهم أكل (الكراعين والمخ والساطر) مع الخبز والبصل..!
كان مشروع (سعد) موافقا جداً لأناس لم يشتغلوا من قبل في (سياسة) الأموال واستثمارها، ولكن الأخ الأكبر أبى إلا الربح السريع والظهور (بالطفرة) في ساحات (السياسات) المالية فخاض مجموعة من المشاريع الفاشلة توجها بمصنع (للكباريت) حرقه ونفسه وعائلته (بكبريته) طمعا في مبلغ التأمين، ولكن أمره انكشف فلم يظفر إلا بخيبة أمل أفقدته صوابه حتى أقدم على محاولة انتحار برمي نفسه في (الجليب)..!
اليوم أنا مستغرب جداً من (حسينو) وعناده واستنقاصه قدر أخيه عندما طرح عليه مشروع مطعم (الباجه)، فيا (أبو علي) أنت وافقت على التثمين بل كنت من المطالبين به بالرغم من معارضة أمك وأخيك وتحفظات جارك (بياع الثلج)، وبالتالي فأنت قد وضعت نفسك ومن معك أمام خيار واحد لا ثاني له، هو خوض معترك (الاستثمار) وإلا فخسارة الثمن والمثمن، وبما أنك يا (حسين) غير مؤهل لخوض مثل هذه المعارك، كان من الأجدر أن تتبع رأي (سعد) وخصوصا في خط الحماية والرجعة وهو (الخباز) الذي (جنه مو لكم)..!
إن هذه الفلسفة (البن عاقولية) نافعة جداً في كثير من المفاجآت الحياتية الجادة وخصوصاً تلك التي ترتبط بمصائر الناس والكيانات، فالذي (جنه مو لنا) يحقق المكاسب دائماً وبشكل أقوى من الذي لنا، وإن حصل وفشل فيبقى (مو لنا)، وهذا في حد ذاته مكسب (لنا) بأن خضنا التجربة وتعلمنا منها دون تعريض كياننا والناس إلى خطورة الوقعات المهلكة.
نعم، إنها فلسفة عبقرية ولكنها مشروطة بأحد أمرين، الأول منهما أن يكون (صاحب الخباز) طالباً للرزق الحلال ولا يفكر في جاه ولا وجاهة غير أن يعطي الناس خبزاً لذيذاً بثمن معقول، فيكون قد ساهم في بناء المجتمع صحياً من جهة، ومن جهة أخرى حافظ على حيويته وحيوية أسرته بالانتظام على دخل مادي يفي بالغرض، أما ثانيهما فهو أن يكون (صاحب الخباز) طماعاً جشعاً ولكنه لا يبدي جشعه ولا يضرب ضرباته إلا بعد أن يثبت (في سوق الخبازين) ويكون رقماً حقيقياً (لا توهيمياً) في سوق (الخبز).
لا شك في أن الأول هو المصداق الأجمل للإنسان المبدئي (الناضج فكرياً)، أما الثاني فهو الشيطان وإن تلون بلون الأول ابتداءً، وفي مقابل هذين الصنفين عندنا العدو اللدود (لفكرة الخباز “اللي جنه مو لنا”)، فهو لا يتمكن من تصور نفسه في حالة صبر أمام (باجة المطعم أو كيكته..)؛ لأنه وفي أغلب الأحيان منجذب بشدة صوب الوجاهة وعشق أن يكون دائماً (بطل الفيلم)، لذا فهو يسارع إلى (التمردغ) في باحة المطعم موهماً الآخرين بأنه الفاهم العالم المحنك الخطير (ولإظهار هذه الصور طرق عديدة قد لا نتمكن من حصرها).
إنه وبسبب هذه العقلية غير الراشدة سرعان ما يسقط مع أول ارتفاع لأسعار (الكراعين) أو الخبز (لأنه سوف يشتريه بعد أن رفض فكرةالخباز “اللي جنه مو لنا“)، أو مع كل وباء (خرفاني أو بقري)، والحال أنه لو قبل بفكرة الخباز لبقي في دائرة الأمن وابتعد عن مثل هذه المطبات التي عادة ما تكون متسارعة متعاقبة.
لم يغادر الوقت بعد، فالتفكير في الخباز بجانب مطعم (الباجة) لا يزال ممكناً، ولكن بشرط فهم المعادلة (البن عاقولية) جيداً وعدم التعبقر عليها.
كانت سطور لذوي الألباب، سلم الله ألبابهم..
السيد محمد علي العلوي
12 شوال 1431 هـ
21 سبتمبر 2010 م