تيارات فكرية وتوجهات عقلية ومبتنيات تأصيلية.. هكذا هو مُركَّبُ المجتمع البشري رأسياً في عمق التاريخ ومستقبله، وأفقياً في جغرافيات السكان وتراميهم في البلاد والوديان، فالطبيعة البشرية مجبولة على التأثر والانفعال من جهة والميل والاختيار والسلوك من جهة أخرى، والكلام هنا ليس في شكل التأثر ولا هو بحث في قوة الانفعال ودرجة وصحة الاختيار ووجهته، ولكنه كلام في أصالة هذه الطبيعة التي يرفض ربُّها معارضتَها أو الخبطَ في مقتضياتها لحكمة عالية ليس المقام مقام بيانها، فقد قال عز وجل في صريح القول وواضحه (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)، ولعمري لو أنها فقط لكفت في التوجيه نحو استثمار الموجود والموافق وعدم الانشغال بالمفقود والمخالف، فإن الواحد الإنساني وإن كان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فهو غير مخول بل ولا مأذون بالدخول في صراعات مع آثار الطبائع الإنسانية فضلاً عن الطبائع نفسها، وأقصد هنا الطبيعة بما هي طبيعة.
أوردتُ هذه المقدمة المختصرة تقويماً وصقلاً للذائقة المُؤَمِّنَة من الدخول في صراعاتٍ وتأزيماتٍ الإعراضُ عنها نجاة، والدخول فيها تِيهٌ وضياعٌ؛ فالدعوة ليست إلى ترك الحبل على الغارب وعدم محاسبة الانحرافات والانفلاتات، ولكنها دعوة لإتقان التشخيص وفهم الحال والأحوال بما يجعل الحمل أقرب إلى قواعد الثقلين، القرآن والعترة دون تحويرات وتحميلات لا يستسيغها الفكر الواعي.
على أرضية التدين الإسلامي ينبغي لنا أن نفهم جيداً تلك المساحة الرائعة التي جعلها الله تعالى ميداناً للاختلاف ومحلاً طبيعياً لأنواع من التقاطعات والتعاكسات الفكرية التي تبين في جانب من جوانبها إيجابية التفاوت الإدراكي بين بني الإنسان، فهذه المساحة إن فهمنا واستوعبنا أطرها سار المجتمع بتناسق واتساق، وإن كان في الفهم توسيع أو تضييق فهذا يعني بداية الطريق نحو تحصيل الذميم من الخلق والمرفوض من السلوكيات في التعاطي مع الآخر، لذا فنحن في معرض البحث عن المساحة الحقيقية للاختلاف فكرياً وتيارياً
إن مساحة الاختلاف التي نشير إليها إنما كانت من الله تعالى لأن التطابق الكلي بين عقلين في الصورة والفكر هو مما لا تقبله قواعد التحليل الموضوعي، حيث إن الشخصية الفكرية للانسان تصوغها الظروف التي يمر بها حتى وهو في صلب من كان في صلبه، لذا فإن نقاط الالتقاء قد تكون مفقودة في حال كان الموضوع –مثلاً- المودة في القربى إذا كان أحد طرفي المواجهة ابن زنا (والعياذ بالله تعالى) لقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): لا يبغضك يا علي إلا ابن زنا أو ابن حيضة أو منافق.
وفي حالات أخرى تتدخل الظروف التربوية والاجتماعية والضغوط الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها على القالب الإدراكي والاستيعابي للفرد، وهذا بطبيعة الحال مختلف من واحد إلى آخر، ولذلك جاء التوجيه المنهجي والسياسي من الله تعالى إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ )، هذا وبينهم الحكمة الإلهية متمثلة فيه (صلوات الله وسلامه عليه وآله الطاهرين)، فكيف والحال أن الناس في زمن الغيبة محتكمون في عموماتهم إلى قيادات دينية داخلة بنفسها في دائرة الاختلاف الطبيعي!!
فلنبدأ النظر في أول سيرة اختلاف خرجت عن أطرها المقررة سماوياً فكانت النتيجة أن أريق أول دم محرم ليصدق قول الملائكة الكرام (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)، إنها قضية هابيل (المقتول) مع أخيه قابيل (القاتل) حينما شطح الثاني بفكره فخرج عن مساحة الاختلاف الطبيعية بدافع من الحسد عندما تقبل الله من أخيه ولم يتقبل منه، والعجيب في مسالك الأفهام ومناهج الفكر والأخلاق أن هابيل وبعد أن تطاير الشرر من عيني قابيل وبدت نيته في أذية أخيه قال: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، وهذا يعني أن البقاء داخل دائرة الاختلاف المسموح بها من الله تعالى يجب أن يكون من الثوابت الراسخة حتى لو كان الثمن قتلاً وإراقة دم، فالحق الذي اعطاه الله تعالى لهابيل هو حق الدفاع عن النفس دون زيادة، وهذا معنى (مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ) حتى مع العلم بنية القتل عند الطرف المقابل، ولو أن قابيل لم يفعل ما يضطر به هابيل للدفاع عن نفسه لماكانت هذه الجريمة حتى مع بقاء الحسد والبغضاء في صدره، وذلك لقوله عز وجل (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) أي أن الرد من أهل التقوى لا يمكن إلا أن يكون سالماً بخلوه من كل عيب أو نقص.
إن الحالة التي تلبسها هابيل لم تكن حالة سلبية ولا هي حاكية عن ضعف أو هوان، بل هي في حقيقتها مثلت قمة القوة والإيمان بالقضية، والشاهد على ذلك تسجيلها أول جريمة في عالم الإنسان عملت وتعمل وستبقى عاملة على فرز الحق عن الباطل بكل تمكن ووعي، حيث إن قابيل الأمس فضَّاح لأتباعه ما بقيت الدنيا، وبالتالي فهو زكاة لأعدائه إلى قيام يوم الدين، وهذا يحتاج إلى تأمل دقيق..
وفي منعطف آخر تعرَّضَ واحدٌ من أولي العزم إلى ألوان وألوان من التعديات والتهم والإقصاءات حتى قيل بأنه مجنون سفيه لا يعي ما يصنع عندما كان يشد أركان سفينة النجاة على البر، وقد كان للحملة الإعلامية التي شنها قومه عليه كبير الأثر في مسار الدعوة حينها، ولكن نظرته الإلهية كانت عميقة بعيدة المدى، فهو لم يدخل معهم في صراع، ولكنه واصل عمله الرسالي الخالد في قوله (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) والسبب ليس لأنه جوبه منهم بالرفض والإقصاء، ولكنه لأن (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) فكان نتيجة هذا الجهاد التقوائي أن جاء إبراهيم (عليه السلام) بدين عالمي جديد واصل عليه موسى وعيسى (على نبينا وآله وعليهما الصلاة والسلام) وختم بالقدس النبوي الأعلى محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو أن نوح (عليه السلام) واجه بمثل ما وُجِه لكانت معالم التاريخ الرسالي مغايرة جوهراً لما هي عليه اليوم من ضياء وألق.
ومن بعد ذلك كانت العصبية والتأزيم من لدن آزر ومن كان في ركبه، أما التأني والحجة فكانت صِنعة إبراهيم (عليه السلام) حتى جاء الجزاء الأسمى من المولى عز وجل عندما أنزل أمراً من السماء على نار تلظى (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) فكان النصر البين لنبيه والهزيمة النكراء لكل من شط في فكره وسلوكه فخرج عن حدود مساحة الاختلاف المسموح بها، والتي لو بقي في داخلها فإنه وبالرغم من اختلافه قد يكون في سعة رحمة الله تعالى التي شملت اليهود على يهوديتهم والنصارى على نصرانيتهم والصابئين على صابئيتهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، بل وأكثر من ذلك ان أسراء مكة أعتقهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالها بكل ثقة وثبات: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)!!
إن الخلاف بين الإنسان والآخر لايمكن بأي حال من الأحوال أن ينتقل إلى ساحات الصراع والتأزيم إلا في حدود الدفاع عن النفس خصوصاً إذا كانت الأطراف تنتمي إلى عقيدة واحدة ومذهب واحد، فإن النهي القرآني هنا واضح لا يحتمل التحوير والالتفاف على ظاهره (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
ثم أنه ولو حصل إنشقاق هنا وآخر هناك، فقد يكون الخير فيه، إذ أن التابع عادة مايكون على شاكلة المتبوع، فإذا كان المتبوع ضالاً تبعه من اختار الضلال، أما إذا كان المنشق صالحاً فليكن الانشقاق إذاً..
إن الوضوح في الفكر وسياساته هو الفيصل في قضايا النزاعات الدائرة في المجتمع حيث إن الإسراف في الخلاف حينها لن يحتاج إلى متابعة أطرافه، وهذا ما قرره النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) عندما أوصى عمار (تقتلك الفئة الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحق و الحق معك إن سلك علي وادياً والناس كلهم وادياً فاسلك وادي علي فإنه لن يدخلك في ردى ولن يخرجك من هدى..)، فمن كان من علي فاز وأفلح، وأما من يخالفه فواضح ضلاله ولا يحتاج إلى بذل جهد معه حيث إن علياً واضحٌ وبوضحه بان غيره، فلنتأمل هذه المعادلة جيداً.
ومن هنا يُعلم أن في الذي نسميه انشقاق خير لو أدركناه لربما كان في تكرارنا تكرار لسيرة هابيل ونوح وإبراهيم، وبالتالي تفعيل لسيرة محمد وآله الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فقد صرح المولى جلَّتْ قدرته (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وأي كره للخير لو كانت البصيرة حاضرة وكان النظر ثاقباً؟
إننا نعاني اليوم خللاً في استيعاب الاختلاف والتعددية، فمنَّا من يحصر الفكر والنظر في واحد متبوع له نطاقه الخاص الذي ما إن يتخطى أحدٌ حاجزه حتى وسم بالعداء والضدية فكان حرباً لا محالة، وفي الجهة المقابلة وعلى مايبدو أنه رد فعل للحالة الأولى جاء تمييع القبول بالرأي الآخر حتى أصبحت معالم الفكر الإيماني مشوهة بشعارات الديموقراطية والليبرالية ومانحو ذلك من صَرَعَاتٍ متخلفة.
السيد محمد علي العلوي
16 رجب 1431 هـ
28 يونيو 2010 م