ليس الإيدز إلا مرضا يصيب الحصانة في جسم الإنسان حتى يخرجه من حالة الإطمئنان والإستقرار إلى ضغوطات الخوف والقلق من الإقتحامات والإختراقات الفيروسية التي تهُد قواه بعد أن تتلاعب بكل مراكزه الحيوية التي أودعها الله تعالى جسمه رحمة منه ومِنَّة. حينها يتدخل الطب بإتخاذ أولى خطواته العملية بعزل المريض عما يمكن من مظان الهجمات المنهكة، ومن بعد ذلك يأتي التركيز على محاولة تقوية أجهزة المناعة في ضمن تجارب تهدف إلى إعادة تأهيل هذا المريض للعودة إلى ملعب الحياة مرة ثانية.
مشكلة العلاج مع الإيدز هي أن الطب لا يكتشفه أو المريض لا يستشعره إلا بعد أن يتمكن من بناء قواعد انطلاقاته التدميرية، ولذلك غالباً ما تكون نسبة النجاح في الإستقواء عليه ودحره ضعيفة جداً إن لم تكن معدومة.
إن هذا الإيدز حالة متطورة للطاعون والأمراض التي يسببها الجراد والقمَّل والدم، وعوارض إحمرار الوجه وإصفراره وإسوداده، وما تنتجه الرياح الصرصر وأشباهها التي ما كانت لتكون لو اتبع الناس ما جاء به الأنبياء والرسل (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) من الخالق الديان رب العالمين، ولكن الحال أنهم مكروا.. فحاق بهم مكرهم!
اليوم نحن تحت ذات المجهر بلا فرق، إلا ما نحن فيه من انفلات وتِيه أشدّ وأكثر رعباً مما كان عليه جملة من أقوام سبقوا، والسبب هو أنهم رفضوا من رأس، أما نحن فحملنا حصانة الثقلين شعاراً وانقلبنا عليها أخذاً وتحصناً، فكان أن صالت في جسدنا الإختراقات وجالت، فضعفنا حتى عن تزريق بعض الحقنات الرسالية في شريان فكرنا المترنح.
أقولها اليوم بأن نقص المناعة القيمية هدفٌ يُسعى إليه بكل وضوح، والغاية التمكن من مسالكنا الفكرية للوصول إلى علمنة على أعلى المستويات، فلا يكون فرق لا في الثقافة ولا في القيم، بل ولا حتى في المباني الفكرية بين البحراني والبرازيلي والأميريكي والباكستاني، فالهدف أن يكون العالم بأسره طوع نظام رسمته ريشةُ غُرابٍ هناك في منطقة ما وراء المغيبات.
إن هذا الطريق تُمهد له وتُعَبِّدُ شارِعَه آلةٌ أُخطُبوطيةٌ صُنِعَت وبُرمجت في عقود من الزمن استوعبها عمل دؤوب ما عرف مللا ولا كللا، فكان نتاجه أن الإختراقات تمت فعلاً وعملاً بشاشات فضية وغير فضية، وصحون التقاط فضائية وغير فضائية مهدت لتغييرات جذرية وغير جذرية، ملحوظة وخفية، في الفكر العام أولاً حتى أصبح طيعاً مشجعاً لتدميرات تربوية وتعليمية واقتصادية واجتماعية، فكان الفرخُ الأخير (ديموقراطية) ما إن أسمع بها حتى تختلط دموعي بسيل من القهقهات…
ليس من مصيبة نعيشها اليوم أعظم من مصيبة التطبيع مع مصيبة إنعكاس المفاهيم وإنقلاب القيم، فلم تعد المصيبةُ مصيبةً، وتحول التمسك بالقيم كارثةً وتخلفاً!
إن كان بعضٌ من المؤمنين يرى فيما أقول سوداوية لا تطابق الواقع اليوم فأقول بأنها وبمقتضى مقدمات مشهودة آتيةٌ لا محالة إذا لم يكن من موقف حزم لا نتخطاه الإ بتجاوز هذه العمياء الصماء الكارثية التي نعيشها حتى في تديننا.
كمثل ما يُتخذ لمواجهة الإيدز فنحن في حاجة ملحة إلى الإنغلاق في ضمن دوائر متعددة بحسب الواقع الجغرافي يكون العمل فيها مركزاً جداً لتحقيق بعض الأبعاد المحورية في بناء مجتمع إيماني متدين رسالي ناضج يوجه الفكر نحو أعظم المشاريع الإلهية وهو مشروع الدولة المهدوية المباركة.
إن هذا الإنغلاق لا يعني الإنعزال عن المجتمع وواقعياته السياسية وغيرها، ولكنه على العكس من ذلك تماماً، حيث إنه العلاج التكويني الذي قرره القرآن الكريم في قول الحق تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فَتَدَخُل اليد الإلهية لتغيير الحال إلى أحسن حال متوقفٌ على إنطلاق المجتمع في إصلاحاته من داخله الشخصي وهذا هو العلاج الذي يأتي بعد عزل المريض لإيقاف عمل المايكروبات في جسده القابل والمستعد لتلقيها بل واحتضانها حتى تأتي عليه بالكامل.
إن ما نحتاجه اليوم هو التركيز الفعلي من جهة والعملي من جهة أخرى على أحوالنا الداخلية من حيث التعاطي والتفاعل مع تعاليم الدين ومبادئ التدين على اعتباره الطريق الأوحد لنيل توفيقات الله تعالى في التغيير الإيجابي.
وفي نفس الوقت فإن الحال لا يسلم ولا يستقيم إلا بمراقبة ما يهدد الجسد المستهدف وتحديد أنواعه حتى نفهم جيداً طريقة التحصن وكيفيته أو كيفياته.
إن مرحلة الإنغلاق هذه تواكب في داخلها مختلف التطورات والأحداث الخارجية حتى يكون البناء متسقاً ومتناسباً مع ما هو واقع في دنيا الغير فيكون الإنفتاح في مرحلته سيالاً في كل مفاصل المجتمع فيحدث التغيير بتوفيق المولى جلَّ شأنه.
يحق للبعض عدم التفاعل مع نظرية الإنغلاق المرحلي التي أطرحها، وذلك بحجة تسارع الأحداث ومضي الآخر في تنفيذ أجندته المدروسة والمنظمة مرحلياً بشكل احترافي دقيق في مختلف جوانبه.
أقول بأنه كذلك، إلا أن دقة الآخر قد تكون مستوعبةً لزوايا ومفاصل مهمة جداً، ولكنها عاجزة كل العجز عن فهم معادلة العمل الرسالي إذا ما ارتكز على الثقة المطلقة في يد الغيب الإلهية.
إن مانحن فيه اليوم لا يمكن لعلاج فيه أن يستقيم بحسابات مادية لا ترتكز على فرج ومخرج وعد الله به المتقين، لذا فإن يوم الخلاص يرسم بسملة بيانه الختامي مع أولى خطوات إعادة البناء التديني لمجتمع يُراد له اليوم أن يرى الضلال هدى، ونريد له غداً أن يكون قائد الفلاح والهدى.
السيد محمد علي العلوي
15 رجب 1431 هـ
27 يونيو 2010 م