من العلماء والمفكرين من لم يُلتفت إلى فكرهم ونظرياتهم ومؤلفاتهم إلا بعد رحيلهم عن هذه الدنيا بعشرات السنين، فكانت من بعد ذلك مراجعا معتبرة لا تخلو منها كبريات المكتبات ومراكز البحوث العلمية، فلماذا لم يكن هذا القبول والاستيعاب في وقت طرحها وزمن أصحابها؟
إن قبول الفكر من عدمه يخضع بشكل كبير إلى القواعد والاتجاهات الفكرية التي يعيشها المجتمع، ولا يخفى أن تلك القواعد والاتجاهات تتحكم فيها جملة من المؤثرات التي تلعب الدور الأبرز في رسم الهياكل العامة للأيديولوجيات المتباينة بين مجتمع وآخر.
ولعل وسائل الإعلام في زمننا المعاصر تمثل السلطة العليا التي تساهم بفعالية كبرى في تشكيل وصياغة الاتجاه الفكري العام كما يبتغيه أولو النفوذ في عالمنا الغابوي.
ولا أفضل مثل يضرب في هذا المجال من الإعلام الأمريكي الذي جعل من القوة الأمريكية أسطورة لا تعرف غير الانتصار، فانتقشت هذه الأسطورة في أذهان الناس وقلوبهم ونفوسهم، فمنذ أفلام الكاوبوي التي يظهر فيها الرجل الأبيض بقبعته التكساسية ومسدسه الذي لا يخطئ الهدف وقد اتخذ دور المنقذ اللامع العادل الناشر للخير بعبقريته وفطنته…..
وهكذا يستمر الفيلم حتى يتحول الكاوبوي إلى رامبو الذي يخلص المظلومين وينتصر لهم مضحيا بنفسه في سبيل الحرية والسلام.
وبهذا حلقت أسطورة القوة التي لا تقهر بترسانتها العسكرية وتسلطها الاقتصادي وقيادتها لتكنولوجيا التقدم والحضارة، وبذلك الإعلام المكثف توجه الفكر العام نحو أطروحتين، فإما التصالح مع هذه القوة العظمى، فالتنعم بحمايتها، وإما المواجهة التضحوية حتى يأذن الله بالفرج.
فإن أنت جئت بفكر يدعو إلى صياغة جديدة تحمل بين ثناياها دعوة توعوية تنظيمية سلمية أخلاقية اكتفائية، تعتمد في أساسها على المرحلية الزمنية، فإنك على الأرجح لن تلقى حتى من يستمع إليك، حيث إن التوجه قد انحصر في سلبية التحليلات السياسية التي تركت الحلول المنطقية وتعلقت بما يمليه عليها الإعلام العالمي.
وهنا عليك بالصبر…..
وهذا الأخير لا يكون إيجابيا عباديا إلا إذا برز بعمل تستغرقه نية خالصة لله سبحانه وتعالى.
وإليك أيها المؤمن في مسلم بن عقيل عليه السلام أسوة حسنة في هذا الجانب عندما تركه الكوفيون فردا وحيدا تحوطه أذناب الأمويين حتى لقي الله تعالى وهو ثابت على دعواه، راسخ في مبدأه، والنتيجة أنه أصبح فكرا يستنير به العقلاء ويستفيد من شموخه العاملون.
فصاحب الفكر والرأي يجب عليه أولا الاهتمام بصيانة نيته والمحافظة عليها في اتجاه وجه المولى تبارك ذكره، ومن ثم يعمل في الأخذ برأي أهل العلم وغيرهم لينقح رأيه ويصححه، ومن بعد ذلك يتوكل على الله لخوض معترك العمل مع تجرده من قيود العصبية والتعصب حتى ينفتح على الآخر فيوسع مداركه ليكون أكثر إلماما وأعظم إحاطة بجزئيات الأمور، وعندها يكون قد أخذ بروح الصبر الذي يرفع الإنسانية ويسمو بها.
السيد محمد علي العلوي
6 شهر رمضان 1430هـ
27 أغسطس 2009