الخبر عند العقلاء..
لا شكَّ في أنَّنا اليوم نعيش درجة سيئة جدًّا من الضعف في وزن الأخبار والتوثق من مصادرها وما نحو ذلك ممَّا يدخل في مستوى قبولها..
بطبيعة الحال يصعبُ في هذه المساحة المختصرة تناول الموضوع إلَّا بقدرٍ معيَّن أرجو أن يكون مفيدًا..
مثال:
لو سَمِعَ أحدُنا أصوات بكاءٍ من أحد البيوت، فقد تكون بسبب خلافات حادَّة، وقد تكون لسقوط طفلٍ من فوق الطاولة، وقد تكون الأمُّ قد جرحتْ نفسها بالسكين.. وقد يكون لوفاة أحد من أهل الدار، وربَّما كان غير ذلك..
لو تحدَّث خلقٌ كثير عن كون سبب البكاء هو موت أحدٍ من أهل الدار.. هنا أرجو الانتباه جيِّدًا..
لا اعتبار للخلق الكثير إذا كان مصدرهم واحدًا، إلَّا أنَّ الأمر يختلف إذا كان المصدر ثقةً فترتفع نسبة الاعتبار، وترتفع أكثر إذا كان المصدرُ الثقةُ من أهل الدار..
أمَّا إذا شهد عشرةٌ -مثلًا- حدَثَ الوفاة، ولم يكن بينهم ما يدعوهم للكذب، فلإخبارهم اعتبار علمي كبير، بل قد لا يجد العاقل باعثًا لا عقليًا ولا نفسيًا على تكذيب الخبر، وهذا ما يُسمَّى بالتواتر..
لو كان المُخبِرُ واحدًا وعلى فرض أنَّه غير ثقة، ولكنَّنا وجدنا أقارب أهل الدار قد نشروا نعيًا أو ما شابه، فهذا يدلُّ على صدقه، وكذا لو رأينا توافد الزوَّار على الدار ولبس النساء للسواد، فهذه أمارات على صدق الخبر..
عندما نتعلَّم مثل هذه الموازين فلا يصحُّ أن نتعلمها للمراء والاستعراض، بل لا بدَّ من التلبُّس بها ثقافيًا وفكريًا.. وسلوكيًا، فنمارسها فعلًا في واقع الحياة..
إنَّنا اليوم، كمجتمع، نعاني كثيرًا من اختلال شديد في موازين تداول الأخبار وتصديقها وتناقلها، فلا نُفرِّق بين المصدر والمرجع والناقل، ولا بين الحسِّ والحدس.. نعاني كثيرًا في فهم موازين قبول ورد الأخبار، وهي ممَّا ينبغي أن يكون في قوام وعي المجتمع حتَّى لا يكون ألعوبةً في أيادي القاصي والداني!!
فلنرجع لمثال البكاء المنبعث من الدار..
لو أنَّنا لم نسمع البكاء أصلًا، ولكنَّ الأخبار تتكاثر بوجود بكاءٍ وحالة وفاةٍ في دار فلان، وفي كلِّ يوم تزداد وتيرة الإخبار عن نفس البكاء وحالة الوفاة..
راقبنا.. لم نجد سيارة إسعاف، ولا سيارة نقل الموتى، ولم نقرأ نعيًا ولا تعزية.. لم نجد أمارات يمكن الاعتماد عليها..!!
لا شيء غير الأخبار!!
نعم، لتلك الأخبار اعتبارها، ولكنَّه اعتبار بحسب المعطيات العلمية؛ فلو ثبت البكاء فعلًا، فلا ملازمة بينه وبين كونه لحادثة وفاة.. وهكذا..
أوَّل الطريق التوبة الصادقة عن نقل أيِّ خبر دون وزنه بميزان العقلاء..
ولا يكفي على الإطلاق أن يُقال: كما وصلني!!
تاريخ المنشور: 10 مارس 2020 للميلاد