حكاية المنامة..

بواسطة Admin
2 تعليقات

قد يجد الإنسانُ في نفسه انتماءً إلى جهةٍ ما، ولكنَّه لا يتمكَّن، في الغالب، من التعامل معه ما لم يقف على مناشئه الصحيحة؛ إذ أنَّه قد يكونُ لعاطفةٍ استوجَبَتْهُ، وربَّما كان لأبعادٍ فكريةٍ، فهذه مناشئ تُحدِّدُ للمنتمي طريقَ التعامل مع انتمائه والجهة التي ينتمي إليها، لكِنَّ مثل هذا الانتماء قد يزول بطروء حدثٍ عاطفي أو تحول فكري يفرض واقعًا انتمائيًا جديدًا، بخلاف ما لو كان ذا منشأ وجداني عميق، يمتدُّ في الإنسان من جذور تاريخية لا تُزاحَم، فهي إمَّا أن تُوجَد فتَحكُم، وإلَّا فليست موجودة.

أرجو من القارئ الكريم أن يسمح لي بطرح مثالٍ قد يُقرِّب الأمرَ بشكل جيِّد..

قبل يومين (الجمعة، 16 من ذي القعدة 1440 للهجرة) أحرز المنتخبُ الجزائري لكرة القدم بطولةَ أُمَمِ أفريقيا بعد تَغَلُّبه على منتخب السنغال في المباراة النهائية بنتيجة هدفٍ لِلا شيء، وبعد انتهاء المباراة لفت انتباهي احتفال أولاد اللاعب العالمي السابق والمدرب الحالي لنادي (ريال مدريد الأسباني) زين الدين زيدان، وهو فرنسي من أصول جزائرية، والحال أنَّهم لم يُولدوا في الجزائر، بل ولا يعرفون التحدُّث بالعربية مطلقًا، فهم ليسوا جزائريين بأي معيار غير الجذر التاريخي الممتد فيهم من أجدادهم. لا علاقة للأمر هنا بغير الانتماء الوجداني الراجع إلى الأرض.. إلى الأجداد.. إلى التاريخ الذي لا يمكن أن يتغير؛ فهو وُجِدَ ليكون، ولن يزاحمه شيءٌ مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الظروف.

نعم، قد لا يعودون إلى الجزائر، بل قد لا يتمكنون من العيش هناك؛ فهم مختلفون ثقافةً وفكرًا وسلوكًا، إلَّا أنَّهم لن يتمكَّنوا يومًا من عدم (الانتماء) روحًا ووجدانًا.. قد ينسون الجزائر.. قد لا يعرفون عنها شيئًا.. ولكنَّها تبقى في وجدانهم..

المنامة.. (فريق المخارقة)..

لم يعش ولدي الأكبر (السيد علي) يومًا في المنامة، ولم يكن، قبل سنتين، يعرف فيها أحدًا، ولكنَّه عند خروجنا من فاتحة في أحد مآتم المنامة سنة (2014 للميلاد) وكان حينها في الخامسة عشر من عمره، قال لي: عندما أكون في المنامة أشعر بِعِزَّةٍ وقوَّة!!

أقصد في المنامة بيتنا القديم؛ أطوف بجدرانه لأتنفَّس واقعًا قد تنفَّسه أبي.. واقعًا قد لامَسَتْهُ، مُلامَسَةَ عَيشٍ، أجسادٌ كنَّا في أصلابها..

أتحسَّسُ الجدران، وأرمي بقلبي في أيَّام التاريخ، لعلِّي أرتمي في أحضان طيفٍ طالما بحثتُ عن دفئِه..

ثُمَّ أغادرُ بابتسامة قد احتضنت دموعًا أرادتْ أن تكون.. هناك.. لا، بل هنا..

في وسط هذه المشاعر التي أحسُّ ببردها وهي في قمَّة توهجها، خَرَجَتْ مجموعةٌ من أولاد وبنات المنامة بمشروعٍ يُثلِجُ الصدور ويُطَيِّبُ الخواطر.. إنَّه مشروع حكاية المنامة..

مشروعٌ يُوثِّقون فيه تاريخ المنامة بالصور القديمة واللقاءات مع عِزِّنا من الكبار الذين عاصروا فترات وحقَبًا مناميةً أصيلة، فبتنا نترقَّبُ جديدهم بشوقٍ متزايد دائِمًا، بل ونتحين الفرص لتقديم أي خدمة قد تساهم في إنجاز عمل يسعون إليه؛ فهذا شرف عظيم ومدعاة لسرورنا؛ خصوصًا عندما نكون جزءًا، ولو صغيرًا جدًّا من جهد عظيم يقوم به أولاد المنامة في مشروعهم الأنيق الراقي.. حكاية المنامة..

شكرًا لكم.. شكرًا لكم من الأعماق؛ أنْ فتحتم لنا نافذةً زاهيةً مُزهرةً على قلوبنا التي طالما اشتقنا لشيءٍ من جمالها..

وهنا كلمةٌ..

وثَّقَ الأحبَّةُ، مُؤخَّرًا، الحركةَ العلميةَ في المنامة على امتداد المئة سنة المنصرمة، مُتَوجين جهودهم الرائعة بكتابٍ فخم ضَمَّنُوه سِلسِلَةَ إصداراتهم التوثيقية (ملامح)، وبالرغم من جمال الحدث، إلَّا أنَّ أمرًا (نَغَّصَ) علينا فرحتنا..

إنَّه إحجام بعضٍ، وبخل بعضٍ آخر، عن الجود بما لديهم لإثراء (ملامح)؛ فقد كنَّا نرجو من المعلمين الاستفاضة في ذكر المعلومات والمواقف والأحداث التاريخية التي عاصروها خلال مراحل عملهم في سلك التعليم، ولكن.. للأسف؛ فقد لاحظنا شيئًا من ضعف اهتمام البعض بسرد سِيَرهم التاريخية في هذا المجال!

المؤسف في الأمر، إعراض البعض عن التعاطي الإيجابي مع ما يقوم به الأحبَّة في حكاية المنامة، فهناك من الشخصيات المهمَّة التي ننتظر ظهورها في لقاءات توثيقية، لا تزال معرضةً بالرغم من امتلاكها لكنوز من المعلومات التي نحتاجها بشدَّة؛ فما يقوله الكبار في لقاءات حكاية المنامة يدخل بشكل محوري في ثقافاتنا وتربوياتنا، وهذا ما ينبغي للجميع التنبَّه إليه بدقَّة.

لذا، أقترح التالي:

  • أن يتفضَّل القائمون على حكاية المنامة بإعداد برنامج خاصٍّ يستطلعون فيه مختلف الآراء حول المشروع ومدى تأثيره العميق في حياة الناس ثقافةً وفِكرًا.
  • العمل على تفريغ اللقاءات المرئية وصياغتها في كتاب خاصٍّ يُضمُّ إلى سلسلة ملامح؛ فالمكتوب يقرُّ ويبقى، على خلاف التسجيلات المسموعة أو المرئية؛ وإن كانت مهمَّة، إلَّا أنَّ للمكتوب خصوصياته بلا شك.
  • الإعداد لبرامج تُؤكِّدُ على ثقافة الحفظ التوثيقي الاحترافي؛ لما في ذلك من أهمية ثقافية وفكرية وتربوية لا تتوفَّر في غير التوثيق على أسس علمية صحيحة.
  • أن يتفضَّل كلُّ من يملك صورًا قديمة أو وثائق مثل عقود شراء أو بيع أو إيجار، أو دعوات وإعلانات، بإرسال نسخ منها إلى الأحبَّة في حكاية المنامة؛ فهذا مشروع عظيم يحسُنُ من الجميع المساهمة فيه؛ لإثرائه والتقدم به نحو الأفضل.. حكاية المنامة، حكاية وطن، ومثلها حكايات كافَّة مناطق البحرين.. هي في الواقع حكاية وطن..

ولنتذكَّر دائمًا..

قال الإمامُ عليٍّ (عليه السلام): “عَمرتْ البُلدَانُ بِحُبِّ الأوطان”.

وقال (عليه السلام): “مِنْ كَرَمِ المرءِ بُكاؤه على ما مضى من زمَانِهِ، وحَنينه إلى أوطانه، وحفظه قديم إخوانه”.

وهمسةٌ في الختام..

عندما نعي، ونحن كذلك إن شاء الله تعالى، المعنى العميق للوطن، حينها سوف تحضر، في نفوسنا، الغيرةُ على أحيائنا، ولن نسمح بتحولها إلى مادَّة تجارية كما حصل مع البعض فهانت عليهم المنامة عندما أجَّروا بيوتهم على عزَّاب وعمَّال أجانب، دون مراعاة لحرمات التاريخ وحريم الانتماء..

بالله عليكم.. كيف هانت عليكم؟!

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

18 من ذي القعدة 1440 للهجرة

البحرين المحروسة

مقالات مشابهة

2 تعليقات

الدكتورة رجاء حسن أحمد كاظم 21 يوليو، 2019 - 2:58 م

الحمد لله رب العالمين أنني من عائلة منامية لم تتنازل عن منزلها في المنامة و لا عن فريقها المخارقة
و لازلنا أخوةً و أخوات نتجنع في بيت العائلة في فريق المخارقة أسبوعياً و في المناسبات

رد
Admin 21 يوليو، 2019 - 5:13 م

أحسنتم كثيرًا دكتورة، وأسأل الله تعالى أن يبقيكم دائمًا في خير وصحَّة وعافية. لا تنسونا من صالح دعائكم، كما لا ننساكم إن شاء الله تعالى..

رد

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.