تتعدد صور البكاء والجزع على الإمام الحسين (عليه السلام) بتدرجٍ يصل لحدٍّ تزهق فيه الأنفس كما ورد في كامل الزيارات عن أبي ذَر لمَّا أخبر الناس بمقتل الحسين (عليه السلام)، فقال: ” وإنَّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله لبكيتم والله حتَّى تزهقَ أنفُسُكم”، فهي أحداث فوق مستوى الفكر البشري ولا يتحملها العقل، ولو تعمقتم في تفاصيلها لما تحمل قلبكم تلك الجريمة النكراء والفساد العظيم في الأرض. قال تعالى (إذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وكما ورد في بعض التفاسير أنهم (الملائكة) لاحظوا في ذلك قتل الحسين (عليه السلام) فقالوا هذا تحزّناً وتحسّراً، قال تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون).
بمعنى أن هذا الحزن على الحسين (عليه السلام) مستمر من قبل بدء الخليقة على هذه الأرض، وهو أول أمر قبل خلق آدم وجعله خليفة في الأرض، علم الملائكة واطلعوا على الفساد المتحقق بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) واعتبروه فسادًا يفوق كل فساد في الأرض بدءًا من آدم وحتى آخر الزمان، وحين نظر آدم (عليه السلام) إلى ساق العرش ورأى أسماء الخمسة ولقّنه جبرئيل (عليه السلام) أن يقول “يا حميد بحق محمد وَيَا عالي بحق عليّ، وَيَا فاطر بحق فاطمة، وَيَا محسن بحق الحسن والحسين، ومنك الإحسان”، فلما ذكر الحسين (عليه السلام) سالت دموعه وخشع قلبه، فقال: “يا أخي، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي. فأخذ جبرئيل في بيان السبب راثيًا الحسين (عليه السلام) وآدم والملائكة الحاضرون هناك يسمعون ويبكون، فقال: “ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب”، فقال: وما هي؟ قال: “يقتل عطشان غريباً، وحيداً فريداً، ليس له ناصر ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه واقلة ناصراه، حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يجبه أحد إلا بالسيوف، وشرر الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحله، وتشتهر رؤوسهم في البلدان، ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنان”.
إن تاريخية المجالس المنعقدة لرثاء الإمام الحسين ذات انطلاقة سماوية قبل نشأة هذه الأرض ومن عليها، لما تحمل من دلالة قدسية تعكس المقام العالي للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وأهمية نهضته العالمية، من هذه المجالس ما ورد في البحار لما أسري بالنبي (صَلَّى الله عليه وآله) رأى شجرة من نور مكللة بالنور، في أصلها ملكان يطويان الحلي والحلل الى يوم القيامة، ولما تقدم النبي (صَلَّى الله عليه وآله) رأى تفاح لم يرى أعظم منه، قال: فأخذت واحدة، ففلقتها فخرجت علي منها حوراء، كأن أجفانها مقاديم أجنحة النسور، قلت: لمن أنت؟ فبكت وقالت: لابنك المقتول ظلماً الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
الصورة الأخرى من صور المجالس المنعقدة لرثائه (عليه السلام) قبل ولادته ما حصل لآدم (عليه السلام) لما كان يطوف في الأرض فعند وصوله الى مقتل الحسين (عليه السلام) عثر برجله، ووقع وسال الدم من رجله، فرفع رأسه الى السماء، وقال: إلهي هل حدث ذنب آخر فعاقبتني؟ فأوحى إليه: لا، ولكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً فسال دمك موافقة لدمه”.
ومن صور الرثاء، لما وصلت سفينة نوح (عليه السلام) فوق أرض قتل الحسين (عليه السلام) ومحل طوفان سفينة أهل البيت أخذتها الأرض، فخاف نوح الغرق فقال: إلهي طفت الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض، فنزل جبرئيل (عليه السلام) بقضية الحسين (عليه السلام)، وقال: يقتل في هذا الموضع، فبكى نوح وأصحاب السفينة ولعنوا قاتله ومضوا.
وهذا نبي الله سليمان (عليه السلام) لما كان على البساط في الهواء وصار محاذيًا للمقتل، أدارت الريح البساط ثلاث مرات، وانحطت على الأرض فعاتب الريح فأخذت الريح ترثي وتقول: يا نبي الله إن في هذا المكان مقتل الحسين (عليه السلام).
ولما التقى موسى (عليه السلام) بالخضر فحدثه عن آل محمد وعن بلائهم، حتى إذا بلغ الى حديث الحسين عليه السلام، علت أصواتهما بالبكاء.
وهذا نبي الله إبراهيم (عليه السلام) حين اُري ملكوت السماوات والأرض، ورأى شبح الحسين (عليه السلام) فبكى عليه، وحين أراد كسر الأصنام، فقال: إني سقيم، يعني لما يحل بالحسين (عليه السلام)، وحين وصل إلى كربلاء عثرت به فرسه، وسقط عن الفرس، وشج رأسه، فقال: إلهي، ما حدث مني؟ فقالت فرسُه: عظمت حجبني منك، السبب في ذلك أنه هنا يقتل سِبْط خاتم الأنبياء (صَلَّى الله عليه وآله)، لذا سال دمك موافقة لدمه.
وزكريا (عليه السلام) حين سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فعلمه إياه، وكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن (عليهم السلام) سُري عن همه، وانجلى كربه، واذا ذكر الحسين (عليه السلام) خنقته العبرة، ووقعت عليه البُهرة، فقال (عليه السلام) ذات يوم: إلهي مالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين (عليه السلام) تدمع عيني وتثور زفرتي؟
فأنبأه الله تعالى عن قصته فقال: (كهيعص)، فلما سمع ذلك لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب.
محمَّد يوسُف العرادي
الأوَّل من المحرَّم 1440 للهجرة