طرحٌ موضوعيٌّ وازِنٌ.. وعيٌ وحِكمَةٌ عن حسٍّ مسؤول..
كان ذلك من أهم ما ميَّز الندوةَ التي أقامها مأتم المرخ تحت عنوان (القصيدة الموكبية إلى أين؟)[1]، بمشاركة سماحة الشيخ بشَّار العالي، والأستاذ الحاج عبد الشهيد الثور، والأستاذ الحاج سلمان الدرازي، فالموضوع من المواضيع الحسَّاسة؛ لِمَا يلامسه من حالةٍ تَقَعُ في عُمْقِ وجدان المؤمنين مُقدَّسَةً، كيف لا ومحورها أهل بيت العِصمَة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وما وقع عليهم من ظلم يهتزُّ له عرشُ الإله تبارك ذكره، وهو محور يقوم في الروح الشيعية عقلًا وعاطِفةً. وبالرغم من هذا الموقع الحسَّاس، تميَّز طرحُ الإخوة الأفاضل بالموضوعية والحِكمَة المسؤولة؛ وليس كلُّ حِسٍّ مسؤولٍ يتَّصِفُ بالحكمة، بل طالما دمَّر مُخلِصٌ صادِقٌ ما أراد إصلاحه بسبب انفعالٍ في غير محلِّه وتشخيصات مُتعسفة ومصادرات متأزِّمة.
تتعرَّضُ مثلُ هذه النتاجات الثقافية والمعرفية الواعية إلى خطر الموت والتلاشي ما لم تُحرِّك روحَ الحياةِ فيها أقلامُ المناقشة والنقد والبلورة والإنضاج. من هنا، فإنَّني أتناول نقطتين مهمَّتين ممَّا جاء في الندوة.
النقطة الأولى: أثر القصيدة.
النقطة الثانية: الدعوة لقصر المواكب العزائية على المعصومين (عليهم السلام).
تحدَّث سماحة الشيخ بشَّار العالي حول أهمية البُعد التأهيلي في شَخْصِيَّتَي الشاعر والشيَّال، وأشار إلى نقاط تأصيلية أرى محلَّها الضرورة لا الأهمية وحسب؛ فالقصيدة صورةٌ نَغَمِيَّةٌ تأخُذُ بالقلب وتنفذ من خلاله لثقافة الإنسان فتؤثِّرُ فيها تأثيرًا قويًا يظهر في تعقلاته وفِكْرِهِ وسُلُوكِهِ، ولذلك كانت من أهم معايير الحضارة، ومن مرتكزات الدراسات الاجتماعية التي تبحث في أحوال الدول من حيث العقيدة والثقافة والفِكر.
ترتقي القصيدة بالمشاعر وبالثقافة وبالفكر كلَّما كانت كلماتُها ولحنُها على وفق أصول ومعايير الوعي والرقي، وعلى العكس تمامًا، فإنَّ المشاعر والثقافة والفكر تنحدر بِثقل التلوث كلَّما خفَّت القصيدةُ في كلماتها ولحنها، ولذلك نرى الاهتمامات الشعرية للناس بحسب أحوالهم الثقافية والفكرية؛ والسرُّ في ذلك قدرة الصورة النغمية (الكلمة والوزن واللحن) على السلوك إلى ثقافة الإنسان من خلال أخطر ما فيه، وهو القلب، كما وأنَّ نفس الصورة النغمية لها انطباعها الخاص الذي يبقى طويلًا في ذاكرة الإنسان بما وقع فيه من ظروف.
لذا، فإنَّه لا يصحُّ من الشاعر والمُلحِّن والشيَّال الاستقلال بما يريدون دون النظر العميق في آثار نتاجهم الشعري، بل ذلك ليس من حقِّهم أصلًا؛ فالأمر راجع لجوانب مهمَّة في ثقافة مجتمعات بأكملها، والمُشتغل في إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) يَسْعَدُ وتستقر نفسُه ويرتقي في مراتبه الإيمانية إذا ما كان تحت عناية ونظر أصالةِ الأدب في فِقه أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يُنتظر من عامِلٍ في هذا الخطِّ الشريف التكبر على الرجوع للأصلاء من أهل الاختصاص في العقيدة الفقه والأدب؛ فهذا ليس من شِيَمِ الموالين الصادقين في ولائهم.
تزخر مكتبة الأدب الشيعي بالكثير من المراثي والمدائح الأصيلة التي لو توالت وارتقى بها المفكرون بأدوات النقد والبناء، لكان حالُنا الثقافي غير ما هو عليه اليوم..
فلنفهم -أيُّها الأكارم- جيِّدًا..
حينما يُبحِر صاحِبُ المَلَكةِ الشِعرية في كُتُبِ الأدَبِ، وعندما يُحيط بأصول علوم اللغة صرفًا ونحوًا وبلاغةً، وعندما يدرس العقيدة، ويفهم مراتب الوَلاية، ويقف على موازين الحلال والحرام، ويعي أحوال التاريخ والمجتمعات، فإنَّه كمن يُسبِغُ الوضوء لصلاة الليل يقيمها قربة إلى الله تعالى، كيف لا، وهو بذلك يرتقي بنفسه ليكون في أعلى مستويات اللياقة الفكرية والروحية لسلوك طريقٍ مُقدَّسٍ عنوانه (رحم الله من أحيا أمرنا).
وكذا الشيَّال في سعيه للكمال الأدبي والنفسي طلبًا لرضى الله تعالى وعناية أولي الأمر (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
في هذا الصدد قد أختلف بعض الشيء مع ما طرحه سماحة الشيخ بشَّار العالي، والأستاذ الحاج عبد الشهيد الثور، فقد ألفتا إلى ضرورة أن لا تكون القصيدة الرثائية ذات طبيعة نخبوية من حيث الكلمات وما شابه.
نعم، هذا كلام صحيح، ولكن ليس على إطلاقه؛ فالقصيدة الشعرية والرواية الأدبية، هي في الواقع من أهم أدوات الثقافة -كما أشرتُ قبل قليل-، وفي تصوري أنَّ الجمهور مُطالبٌ فِكريًا بالسعي للتعرُّف على معاني كلمات القصيدة ومراداتها ومقاصدها، ولا أعني بذلك أن تكون صعبةً فوق الأفهام، ولكن لا أؤيدها سهلةً لا تستدعي جهدًا معقولًا لفهمها، وإلَّا فكيف ترتقي بالجمهور من مختلف جوانب الرقي؟!
إنَّنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى الكلمة القوية، واللحن الوازن الأصيل، وللصوت المسؤول؛ فالتحديات التي تجتاحنا أخطبوطٌ يأتينا من جهات البرِّ قبل جهات الفُجور، ومن هذا الواقع أدخل إلى طرح رؤيتي فيما يخصُّ النقطة الثانية، وهي: الدعوة لِقَصْرِ المواكب على المعصومين (عليهم السلام).
هذه النقطة أثارها في الندوة أحدُ الحضور المحترمين، وعلَّق عليها موافِقًا الأستاذ الفاضل الحاج عبد الشهيد الثور، وكذا الأستاذ الفاضل الحاج سلمان الدرازي، وكان منشأ طرحها ما يراه الإخوة من أنَّ الموكب العزائي فَقَدَ شَيئًا من هيبته ومكانته بسبب الإكثار، وهم في طرحهم أشاروا بوضوح إلى أهمية إيجاد البديل عن الموكب في برامج إحياء غير أمر المعصومين (عليهم السلام).
قد أتَّفِق مع هذا الطرح؛ فطبيعة الإكثار تُصيب بالملل وتُفقِد الشيءَ مهابته وحلاوته، غير أنَّ في المسألة جوانب موضوعية أخرى ينبغي الالتفات إليها جيِّدًا.
يُمثِّل الموكب العزائي رابِطًا حقيقيًا بين الناس وأئمة الهدى من أهل بيت محمَّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)؛ وذلك بما في طبيعته من تفاعل تُوَلِّدُه الكلمةُ واللحنُ والضربُ على الصدورِ، وما شابه، وهذا لا يقتصر على المشاركين في الموكب وحسب، بل لمجرَّد الإعلان عن خروج مواكب العزاء وقعٌ خاصٌّ في وجدان المؤمنين وإن عارض بعضهم الإكثار المشار إليه.
فلننتبه بعناية..
إذا كان في اليوم الواحد 24 ساعة، فإنَّ الشيطان بطوفان الغواية والإضلال جعلها ألف ساعة يعيش فيها مجتمع البشر تحت وطأة الإفساد وتدمير الذوق الفطري، ونحن في الواقع لا نملك القدرات والإمكانات الإعلامية التثقيفية التي يمتلكها الشيطان وجنوده، بل ولا يحقُّ لنا شرعًا امتلاك الكثير منها ممَّا يخرج عن موازين الشرع والقيم الإسلامية، وبالرغم من غلبة الشيطان في بعض الميدان، وبالرغم من اتخاذ بعض الشباب لأنفسهم طُرقًا قد لا يرتضيها الشارع المُقدَّس، إلَّا أنَّ الموكب العزائي لا يزال يقوم بدوره في الحفاظ على رابطٍ بين هؤلاء وبين أهل البيت (عليهم السلام)، كما وأنَّه يقوم بدور الرادع الاجتماعي ضد الانفلات الصارخ، وهذا أمر نحتاجه اليوم.
نعم، لم يَعدْ الموكبُ كما كان عليه قبل عقدين من حيث القوة الوازنة والمهابة، ولكنَّ هذا قد نَتَحَمَّلُهُ ونقبلُ به ثمنًا للمحافظة على الرابط الذي أُشيرُ إليه، وعند زوال الداعي نتمكَّن حينها من الذهاب في معالجاتٍ بخياراتٍ أوسع.
إذا ثبَّتنا هذه الرؤية، فَمِنَ المهم نقل الحديث بين خُبَرَاءِ المواكب في بلادنا إلى ضرورة العمل على تقوية القصيدة الرثائية والشيَّالة بما يرفع شيئًا من إشكالية التراجع في مهابة الموكب، ومرجع ذلك إلى النقطة الأولى، كما ومن الأهمية بمكان تقنين الإصدارات المسموعة والمرئية بما يتوافق ومتانة الإسلام العظيم؛ إذ أنَّ ممَّا أراه، رجوع ما تفضَّل بطرحه الإخوة الأفاضل إلى مثل هذه المظاهر شديدة الشبه بغير أهل الإيمان، وليس من اللائق -كما أشرتُ قبل قليل- بالعاملين في ميدان إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) الاستقلال بآرائهم ورؤاهم عن الهيئات واللجان التخصُّصية من علماء ومتشرِّعة وأدباء، بل من المرجو منهم أن يُحافِظُوا على وجودهم الثقافي والفكري والسلوكي في فلك منظومة العمل المسؤول.
وختامًا، أرجو من الله العلي القدير أن يوفِّق الإخوة الأفاضل في مأتم المرخ، وفي سائر مآتم البحرين إلى مزيد من مثل هذه البرامج التي تحافظ على روح العقيدة الإحيائية، وترتقي بها إلى أعلى الدرجات.
السيد محمَّد علي العلوي
22 رجب 1439 للهجرة
[1] – رابط التسجيل المرئي: https://youtu.be/FJBJs7ThphQ