الفِكرُ ورُكنَا (النَقْدِ) وَ(النَقْضِ)

بواسطة Admin
0 تعليق

الفكر

من جهة النظر، فإنَّ التكامل هو ما يفترض أن يصير إليه هذا الخلق البشري في مسيره المعرفي؛ إذ التقاء العقول وتلاقح الأفكار. ويفلسف بعض العلماء هذا التكامل بإرجاعه إلى فهم الأفكار على أنَّها مجموعة مستمرة من المتناقضات التي تتغالب فتفنيها فكرة جديدة أعلى، وهكذا هي الحياة الفكرية تستمر في مسير إيجابي دائمًا. ويذهب آخرون إلى التسليم بنظرية التغالب بين الأفكار، إلَّا أنَّهم لا يُحتِّمون المسير التكاملي الإيجابي، فالأفكار المتغالبة تُنتِّج أفكارًا جديدة في كيفيات مختلفة لا يضبطها اتِّجاه واحد.

يبدو أنَّ النظرية الإسلامية لا تُحتِّمُ حالة معينة، فهي لا تقول على نحو الحتم، لا بالتكامل الإيجابي ولا بالتوالد غير المنضبط، ولكنَّها تقطع بأنَّ المسير المعين ينتهي إلى نتيجة معينة، فيقول -مثلًا-: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). يقطع الإسلام قطعًا مباشرًا بانَّ الابتعاد عن الإيمان وعمل الصالحات والتواصي بالحق والصبر، يعني سلوك طريق الخسران لا محالة، وبالتالي فإنَّ التواصي، وهو توجيه الأفكار وإدماجها يُنتِّجُ أفكارًا من جنسها، ولذلك قال (تواصوا).

على أيَّة حال، نرى أنَّ القضية راجِعَةٌ إلى مسألة (التعقُّل) الذي إمَّا أن يُنتِّجَ (فِكرًا)، وإلَّا فشيطنةً بحسب تعبير الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سُئِل عن العقل ما هو، فقال: “ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان”، وما لم يكن كذلك، فهو وإن كان في من يراه الناس عظيمًا لن يكون إلَّا “تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل”.

إذا ما أردنا الوقوف على مسألة (العقل) والتعرف على أطرافها من جهةٍ مَوضُوعِيَّةٍ كاشِفَةٍ، فنحن في حاجة أوَّلًا للتمكُّن من فَهمِ (الفِكر) و(التفكر) على اعتِبَارِهِ عَمليَّةً تكشِفُ عن سَلَامَةِ العقل وانسجامه مع ما خُلِق له، وهو عبادة الرحمن واكتساب الجنان، وبيان الملازمة في التالي:

العقل خلقٌ كمالي جعله اللهُ تعالى في الإنسان بنِسَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ بحسب الظروف الموضوعية لكلِّ فردٍ فردٍ. أمَّا كونه كمالي فبالجمع بين أحاديث الخلق الأوَّل المروية عن الصادقين من آل محمَّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ومنها:

  • عن جابر بن يزيد، قال: “قال لي أبو جعفرٍ (عليه السلام): يا جابر، إنَّ الله أوَّل ما خَلَقَ خَلَقَ مُحمَّدًا (صلَّى اللهُ عليه وآله) وعِترَتَه الهداة المهتدين، فكانوا أشباحَ نُورٍ بين يَدي الله.

قلتُ: وما الأشباح؟

قال: ظِلُّ النورِ، أبدانٌ نَورَانِيَّةٌ بلا أرواح، وكان مُؤيَّدًا بروحٍ واحِدَةٍ وهي روح القُدُس، فبه كان يعبد الله، وعترته ولذلك خلقهم حلماء، علماء، بررة، أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل، ويُصَلُّونَ الصلوات ويحجُّونَ ويصُومُونَ”.

  • سُئِلُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) عن أوَّل ما خلقَ الله تعالى، فقال: “خَلَقَ النورَ”.
  • قال الإمام الباقر (عليه السلام): “لمَّا خلق اللهُ العقلَ استنطقه ثُمَّ قال له: أقبل، فأقبل، ثُمَّ قال له: أدبِر، فأدبر”.

يظهر اجتماع المفاهيم الثلاثة في عنوان الكمال؛ فالصفوة المحمَّدية، وجهة كمالهم (عليهم السلام) واضحة، والنور، وجهة كماله من حيث إزاحته للظلمة وكشفه للحقائق، والعقل من جهة امتثاله المطلق لأوامر الله تعالى إقبالًا وإدبارًا.

وأمَّا كونه متفاوتًا بين البشر، فلقول الإمام الباقر (عليه السلام): “إنَّما يُداقُّ اللهُ العبادَ في الحِساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا”.

يتضح أنَّ العقل بما هو عقل ومع قطع النظر عن أي عنوان آخر، عنوانُ الكمال في الإنسان، غير أنَّه عنوانٌ مرجعي قياسي، والمعنى أنَّ السلوكَ يُعَيَّرُ بالعقل للوقوف على مدى استقامته، والطريق إلى ذلك هو الإعمال الذهني الذي يقرُبُ في تطابقه مع العقل كلَّما كان صحيحًا، ويتخالف كلَّما ابتعد، ومن هنا كان الحثُّ القرآني على التفكر والتدبر والتعقل، كقوله تعالى: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، وقوله تبارك ذكره: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ).

  • آلية الفكر:

بعدما قدَّمنا، نُذكِّر بأنَّ التكامل الإنساني هو انطلاق بأدوات المعرفة التكوينية الذاتية لاستخراج مكنون النفس، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “من عرِف نَفْسَه فقد انتهى إلى غاية كلِّ معرِفة وعلم”، والفِكر هو الطريق لتكوين وبناء التكامل، ولذا قالوا أنَّه: “إجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب”، والمطلوب هو الحصول العلمي.

يذكر الشيخ المظفر في كتابه المنطق خمسة أدوار تَمُرُّ على العقلِ، هي:

  • مواجهة المشكل (المجهول).
  • معرفة نوع المشكل.
  • حركة العقل من المشكل إلى المعلومات المخزونة عنده.
  • حركة العقل -ثانيًا- بين المعلومات، للفحص عنها وتأليف ما يناسب المشكل ويصلح لحلِّه.
  • حركة العقل -ثالثًا- من المعلوم الذي استطاع تأليفه ممَّا عنده إلى المطلوب.

وبعبارة توضيحية:

يقف الإنسانُ المُدرِكُ أمام شيءٍ ما يجهل أمره، ويقال عنه أنَّه في حال مواجهة المشكل في الوقت الذي يعترف بجهله به، وهو الدور الأوَّل.

ثُمَّ أنَّه يبدأ بالتعرف على نوع المشكل إن كان من المعقولات كالمفاهيم ومن نحو ذلك، أو المحسوسات.

بعد أن يُحدِّدَ نوع المشكل، يرجع إلى نفسه للبحث في الصور العلمية المناسبة لنوع المشكل، وهي مرحلة التأليف السابقة للمطابقة والتي نسميها: الكشف عن المجهول، وهي حصول صورة علمية جديدة.

في الدور الأوَّل يخرج المُدرِكُ عن احتمال التلبُّس بالجهل المركب، فاعترافه بالمشكل كاشفٌ عن أنَّ جهله واحِدٌ بسيط، وهذا من أهمِّ أسس الاستقامة الفكرية، ومن بعد هذا الدور المهم تبدأ عملية الفكر مراحلها الإجرائية، ونرى أنَّها ترتكز ارتكازًا وجوديًا على ركنيين علميين أساسيين، هما:

  • النقد.
  • النقض.

وينبغي التنبُّه إلى أنَّ النقد والنقض من المفاهيم المحورية في المعرفة، وبالرغم من ذلك فهما غائبان لمصلحة فهمٍ لا نراه صائبًا، ولذلك يُسْتَعْمَلُ اللفظان في ممارسات خاطئة تُحسب على العلم والمعرفة والفِكر، وهذا خَطَرٌ يُواجِهُهُ الفِكْرُ الإنساني وحضارةُ المَعْرِفَة، أنتَّج ضَيَاعَ عُلمَاءٍ بين جهَّال!

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “ثَلاثَةٌ يَشْكُونَ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لا يُصَلِّي فِيهِ أهْلُهُ، وَعَالِمٌ بين جُهَّالٍ، وَمُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَليهِ الغبَارُ لا يُقْرَأ فِيِهِ”.

عندما يريِدُ المُدرِكُ معرفة نوعِ مُشكِلٍ ما، فهو في حاجة أوَّلية لمعرفة جهة الانفعال العلمي منه تجاه هذا المشكل، وهي إمَّا أن تكون عقلية، وإلَّا فهي حسِّية، وفي هذه المرحلة يقع كثيرون في خطأ المطابقة فتنخرط بهم الحسابات في محادر الغلط وإن كانت منهم فائق العناية بتطبيق الصور المنطقية في النظر. وما نريد التركيز عليه هو أنَّ تحديد نوع المشكل لن يكون صحيحًا دون طرد كلِّ ما هو غيره، فيقال:

هذا المشكلُ إمَّا أن يكونَ من المعقولات أو لا، فإن كان منها انتقل الذهن للبحث في صور المعقولات المخزونة في الذهن، وإن لا فهو من المحسوسات، ولا غير، حيث إنَّ المُدركات إمَّا أن تكون من المعقولات وإلَّا فهي من المحسوسات، ويوكل إثبات هذا الحصر إلى محلِّه.

إنَّنا لو دقَّقنا في طبيعة هذه العملية لوجدناها تعتمد على إظهار نوع المشكل بطرد غيره عن مساحة النظر، وهذا الإظهار هو المعنى الصحيح لـ(النقد)، وأمَّا الطرد فهو بـ(النقض)، وهو إمَّا هذا وجودًا وإلًا فلا وجوده، فيثبت أو يُنفى، ويبحث في غيره.

هذا هو مرتكز (الفكر) المستقيم، التابع في استقامته للاستقامة على التزام الركنين، وهو التزام يجب أن يرافق المُفَكِّر دائمًا على طول مراحل الفكر حتَّى الأخيرة منها.

في المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الدوران في المعلومات المخزونة في الذهن، يحتاجُ المُدرِك إلى دقة فائقة في عمليتي (النقد) و(النقض)، وهنا مِثَالٌ لغاية التوضيح:

لو أنَّ المُدرِكَ واجه السؤال التالي:

ما هو مفهوم (الإله)؟

قد يقال:

المفاهيم من المطالب العقلية، ولكنَّ العقل مرتبط في أحكامه بالتجرِبة الخارجية، فالذهن ينتزع المفاهيم الكلية من مصاديقها الثابتة في الخارج بإحدى طرق التجرِبة، أو ما يؤدي إلى العلم اليقيني، وبما أنَّ (الإله) غير موجود في مصاديق خارجية، ولم تثبته تجرِبة علمية، ولا هو من الأمور المحسوسة بإحدى الحواس المعروفة، فـ(الفكر) لا يمكنه إثباته علميًا.

فنقول:

إنَّ مفهوم (الإله) دعوى تذهب إلى أنَّ خالقًا غنيًّا خلق كلَّ هذا الوجود، وتبتني دعواهم على أمرين رئيسيين، هما:

  • ضرورة رجوع الموجود في وجوده إلى عِلَّة.
  • بطلان الدور والتسلسل.

فهذا المشكل من المعقولات، وما نريد بحثه الآن هو: مسألة العِلِّيَةِ ومسألة بطلان الدور والتسلسل.

هل يمكن لشيءٍ أن يُوجَدَ دون ان يكون له مُوجِد؟

هل يمكن لسلسلة الوجود والإيجاد الامتداد دون انتهاء؟

هل يمكن للشيء أن يتوقف في وجوده على نفسه؟ وهل يمكن لشيئين أن يتوقف كلُّ واحد منهما في وجوده على وجود الآخر؟

يبدأ البحث العقلي في حركة مستمرة بين مجهولات ومعلومات، فالحركة الفكرية لا تقتصر على خمسة الأدوار مرَّة واحدة فقط، بل خمسة أدوار تعرض على العقل بشكل متكرِّر، فتتولد صورٌ علمية جديدة مع كل دورة كاملة.

يعتمد النظرُ في نجاحه على دقة (النقد) و(النقض) للإظهار والطرد؛ إذ أنَّ الإخلال في الإظهار يؤدي إلى تداخل الصور، والإخلال في النقض يوقِع في الشبهات التي عادة ما تكون مُهلِكة خصوصًا في القضايا المتعلقة بمصير الإنسان.

لا شكَّ في أنَّ الفهم العميق لحركة الفكر وشروطها لا تفيه هذه السطور، ولكنَّ الذي أردناه هو (نقد) عنوان (الفكر) لإظهاره مقدمة لطرد أغياره بـ(النقض).

تنبيهان وفيهما بيان:

الأوَّل:

(النقد) هو عملية فكرية تقوم على دراسة الموضوع لإبراز ما ليس منه، فهو ليس حالة هجومية ولا هو إظهار للمعايب، ولكنَّه مظهر عميق من مظاهر العلم والمعرفة، ولا يمكن أن يكون الطرحُ طرحًا نقديًا ما لم يكن صاحبه على دراية كافية بالموضوع محلِّ النقد، وهذه الدراية تعني الإحاطة بأطراف الموضوع ومكوناته وما يعرض عليه، وإلَّا فالاسم الصحيح للطرح الخالي من هذه المرتكزات هو (مشاغبة).

الثاني:

(النقض) هو دوران بين وجود الشيء و(لا وجوده)، والتعبير بـ(اللا وجود) أدق من التعبير بـ(عدمه)، وهذا أمر قد نبينه في كتابات مستقبلية. ولكن كيف كان، فإنَّ (النقض) متعلِّق بنفس الشيء وجودًا وعدمًا، وأمَّا ورودُ موجودٍ آخر فيسبب إزاحته عن ظرف الخاص، ولا يؤدي إلى (لا وجوده)، فالنهار -مثلًا- ينقضه (اللا نهار)، ولا ينقضه المغرب أو الليل أو أي وقت من أوقات اليوم غيره. ومثال آخر، اللون الأحمر على سطح الجسم، فهو ينتقض بلا وجوده، لا بوجود غيره، والفرق بين الاثنين هو أنَّ النقض انتفاء وجود الشيء من رأس، في حين أنَّ الضد هو إزاحة الشيء لا نفيه مطلقًا.

نلاحظ وقوع الكثير في مغالطات ومشاغبات باسم النقد والنقض، وهذا ما أضعف الحالة (الفكرية) المستقيمة في المجتمعات البشرية بشكل عام، كما ونلاحظ كيف أنَّ الهدوء والأناة وطول البال وسعة الصدر كلها شروط موضوعية لـ(الفكر)، وهذا أمر بات في انحسار شديد مع تسارع الأحداث وتلاحق الأيام.

ونلاحظ أيضًا أنَّ الحركة الصناعية على سعتها لا تدل على تطور (الفكر)؛ حيث إنَّ موضوع هذا الأخير هو التحليل على مستوى المفاهيم حتَّى لو كان نوع المشكل حِسِّيًا، والحال أنَّ النتاج العقلي المفاهيمي اليوم ليس في حالة مُرضية، وهذا راجع – في نظرنا- إلى خلل كبير في فهم (الفِكر) و(النظر).

من هو (المُفكِرُ):

المُفَكِّرُ هو: الإنسان القادر على إبداع وإبراز الفكرة بالارتكاز الصحيح على ركني (النقد) و(النقض) بعد فهمهما فهمًا صحيحًا مستقيمًا.

 

السيد محمَّد علي العلوي

14 ربيع الثاني 1438 هجرية  

 

     

 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.