سُورَةُ الحمدِ/ موجزٌ في الالتفات البلاغي

بواسطة Admin
0 تعليق

 

 

52أسلوب الإلتفات في البلاغة القرآنية

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين

  • مقدَّمة

تتسع فرص المعرفة بزيادة أدواتها؛ فهي مستويات تتدرج مع المنافذ الحِسِّية في تكوين الإنسان، وتتعالى مع ما يُبنى عن طريقها على العلم الأوَّلي وهو ما تسميه المعارف السماوية (فِطْرة الإنسان)، وقد قال الله عزَّ وجلَّ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[1]، فهي وجود ثابت لا يتبدل خَلَقَهَ الله تعالى في الإنسان خَلْقًا.

من تلك الأدوات التي يحتاجها الإنسان على طريق تزكية النفس وبناء المعارف، الذي هو طريق الأنبياء في رسالتهم السماوية (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[2] أدوات فهم الخطاب، وعلى رأسها اللغة العربية وعلومها؛ حيث إنَّ العلم ومعدنه جُعِلَ في الكتاب العزيز وعدله العترة الطاهرة، وقد قال تبارك ذكره (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[3]، وقال (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)، و”بان الشيءُ وأبان إذا اتَّضحَ وانْكَشَفَ”[4].

ممَّا يُبحثُ في بعض علوم اللغة العربية العظيمة انتقال الخطاب من حال إلى حال ومن أسلوب إلى آخر دون منطقة خطابية ناقلة، كانتقاله من مخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب في قوله تعالى (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا)[5]، وهو ما يسمى (الالتفات) عند أهل البلاغة والبيان، ويعرِّفونه:

“التعبير عن معنى من المعاني بطريق من الطرق الثلاثة: التكلم والخطاب والغيبة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها”[6].

وأمَّا تسميته بالإلتفات فمأخوذ من التفات الإنسان برأسه يمينًا وشمالًا، وهو التفات يحقق سعةً في الرؤية ووضوحًا، ومن هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ الالتفات البلاغي ليس مغادرة واستئناف، بل هو مقدَّمة وإبانة، فالله عزَّ وجلَّ ينتقل إلى مخاطبة نبيه (صلى الله عليه وآله) مباشرة ودون منطقة نقل في التفات من الحاضر (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ) إلى الغائب (وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا)، وما يظهر أنَّه تعالى أراد الانتقال إلى من يفقه القول معرضًا عن أولئك الذين لا يفقهون، وفي ذلك رسالة عالية بأنَّ إعراض العبد عن الله تعالى يقابله في مرحلة معينة إعراض من الله تعالى عنه، وأنت يا نبي الله لست معرضًا، واتِّباعك وقاية من مهوى الإعراض عن الله تعالى، وبالتالي فصدر الخطاب موجود في عجزه وجود فائدة وفصل.

وفي مثال قرآني آخر، يقول جلَّ شأنه: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[7]، ثُمَّ التفات بلاغي عجيب (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، تظهر منه رسالة إبعاد وبيان تنزيه لأهل البيت (عليهم السلام) عن ما استوجب الخطاب الأوَّل.

في سورة الفاتحة، لفتتني فوائد عالية أظهرتها التفاتة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وهي ما دعاني لكتابة هذا الموجز، ومنه أسأل العون والسداد.

 

الالتفات:

قال عزَّ وجلَّ بعد البسملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مع إبهام المتكلم والمُخاطب، وكان من الممكن أن يقول (بسمك اللهم الرحمن الرحيم، الحمد لك يا رب العالمين، أنت الرحمن الرحيم، يا مالك يوم الدين)، ولكِنَّه أبهم مقدَّمة لالتفاتة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) المعزَّزة بتقديم المفعول به الذي يفيد حصر العبادة والاستعانة فيه سبحانه وتعالى.

  • بيان:

تظهر الفائدة في الانتقال المباشر دون خطاب نقل والسريع من الإبهام إلى خبر صريح قاطع دقيق (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) دون تردد في بيان الحصر بوضوح لا تشوبه شائبة، وقد جاء هذا بعد تقرير أمرٍ تبدو خلفياته محرَّرة في مكان ما، والأمر هو:

  • إرجاع كل الثناء حمدًا إلى الله تعالى.
  • من أرجعنا إليه كلَّ الثناءِ مصدرٌ لرحمتين، إحداهما رحمانية، والأخرى رحيمية.
  • هو نفسه الذي أرجعنا إليه الثناء حمدًا، والذي هو مصدرٌ لرحمتين، إحداهما رحمانية والأخرى رحيمية، له كلُّ السلطنةِ واليدِ على يوم تستوفى فيه الحقوق بقيام الميزان قسطًا.

وهي أنَّ الإنسان يبحث بفطرته عن جهة تتوفر فيها محاور ثلاثة، هي أن تكون مصدرًا لكُلِّ النِعم، وللرحمة الرحمانية والرحيمية، وأن تكون المالكة حقيقةً ليومِ الفصل الأعظم، وهذا الظهور تَكَفَّله أسلوبُ الإبهامِ مِنَ البسملة إلى قوله (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، ووجدان الفطرة لهذه الجهة حرَّكها حركةً فطرية أظهرتها الإلتفاتة البلاغية لإعلان حصر العبودية والاستعانة فيها.

بعد تحديد الجهة المقصودة، بقي البحث عن الطريق السالم إليها، ولأنَّ العبد للتو أعلن حصر استعانته فيها، فهو الآن يطلب الهداية إلى الصراط منها (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وبذلك حقَّق الالتفاتُ بُعْدَي البناء الإيماني، أمَّا الأوَّل فهو البعد النظري التأسيسي (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وأمَّا الثاني فالبعد العملي السلوكي (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وعلى هذين البعدين تدور رحى الخلافة الإلهية في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[8]، كما وهما مُتركزا القابل لفاعل (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[9].

وبهذا نفهم عُمقَ قول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): “إنَّ الله عزَّ وجلَّ قال لي: يا محمد، (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)، فأفرد الامتنانَ عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وإنَّ فاتحةَ الكِتاب أشرفُ ما في كنوز العرش”[10].

كتبه/

السيد محمَّد علي العلوي

ليلة مولد الإمام العسكري (عليه السلام)

7 ربيع الثاني 1437 هجرية

تحميل الملف بصيغة pdf

http://www.mediafire.com/view/jzgppi73x0uak6s

 

[1] – سورة الروم 30

[2] – سورة آل عمران 164

[3] – سورة الزمر 28

[4] – معجم مقاييس اللغة، لابن فارس/ باب: الباء والياء وما يثلثهما

[5] – سورة يونس 22

[6] – الدكتور محمود شيخون، عميد كلية الدراسات الإسلامية بالأزهر، في بعض كتاباته.

[7] – سورة الأحزاب 33

[8] – سورة البقرة 30

[9] – سورة الجمعة 2

[10] – عيون أخبار الرضا، لابن بابويه القمي، ص167

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.