نظريةُ: (باب النجار مخلَّع)

بواسطة Admin
0 تعليق

يرتاح المرء لفئة من الناس تُبْدِعُ في رفع المعنويات وتتفنَّنُ في الدفع إلى الإمام، كما ويرتاح أكثر وأكثر لإنسان يبذل قصارى جهده في معالجة الأخطاء دون مَنٍّ ولا أذى..

وأمَّا السكينة والاطمئنان فلها صُنَّاع مهرة، منهم أولئك الذين ينأون بأنفسهم عن رذيلة تتبع زلات الآخرين والبحث عن سوءاتهم والتفتيش عن معائبهم وسقطاتهم.

في الواقع إنَّه ليس كل واحد يتمكن من مثل هذه المراتب الفضائلية العالية، فالقابليات الؤهلة والمساعي الحسنة شرط في الظفر بمثلها، والسِرُّ –كما أراى- إنما هو في مدى القدرة على قراءة الواقع بعين تستجمع أطراف الموضوع في بؤبؤها، وإلا فالأمر بعيد المنال، وللقارئ الكريم مثال مصداقي توضيحي..

امرأة مؤمِنَةٌ تَقِيَّةٌ تحمل هموم المجتمع وتسعى للمساهمة مع الآخرين في الإصلاح وعموم العمل التوعوي الخير، ولكنَّها مبتلاة بزوج أبعد ما يكون عن التدين وموازينه، فبالإضافة إلى ضعف انضباطه في سوق التجارة، عُرِف عنه أيضًا شرب الخمر (والعياذ بالله)، ولكنَّ الزوجة المؤمنة صابرة وتحاول جهدها لإصلاحه..

المشكلة أنَّ هناك من يعمل على منع أو لا أقل ثني النساء عن حضور أي فعالية دينية أو اجتماعية تقيمها تلك الزوجة المؤمنة، وأكثر من ذلك تمادي البعض بالسخرية والاستهزاء بما تقدمه من مواعظ وما شابه، والحجة في كل ذلك البناء على الفهم المتخلف لقوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، فهم يأخذونها بذنب زوجها، ويقولون: (لو كانت صادقة فلتصلح بيتها أولًا)!!

لا أدري لِمَ لا يتذكر أولئك زوجةَ نوح وزوجةَ لوط، وقد وصفهما القرآن الكريم وصفًا شديدًا صريحًا، فقال (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)، فهل كان على نوح ولوط (عليهما السلام) الكفُّ عن الدعوة إلى الله تعالى لأنَّ كلَّ واحد منهما قد ابتلي بزوجة (خائنة)؟

وهل نسي أولئك ما عانته آسيا بنت مزاحم مع زوجها فرعون ذي الأوتاد؟ أوليست من أفضل النساء؟

وها هو القرآن العظيم يشهد لها بالخير والصلاح، فيقول (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، ولكِن، وفي عرف أصحاب نظرية (باب النجار مخلَّع)، من المفترض على الله تعالى أن يرفض آسيا ويردَّ عليها دعاءها؛ لأنَّها زوجة فرعون القاتل سفاك الدماء، وفوق ما ارتكب من جرائم فقد ادعى الربوبية!!

وأمَّا كنعان فقد نهى الله تعالى عنه نوحًا (عليه السلام) فقال (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)..

الأمثلة كثيرة، وهذا غير قول العقل وإرشاد الوجدان إلى أنَّ الإنسان لا يؤخذ بجريرة غيره وإن كان منه قريبًا نسبًا بل دمًا، ولكنَّ البعض يُصِرُّ على مخالفة كلِّ شيءٍ لمصلحة إهانة إنسان والحط من قدره في أعين الناس..

يقولون:

قبيحة (1): هذا الذي ينصح الناس، عليه أولًا أن يضبط ابنه مدمن المخدرات، وإلا فليصمت!

قبيحة (2): ما أشدُّ قوة عينه ويا لجرأته!! يعظ وينصح ويدَّعي الإصلاح، في الوقت الذي لا يتمكن فيه من أن يمنعه إحدى بناته من (…)!

قبيحة (3): كيف نؤمن على بناتنا وتلك (المدَّعية) لها اخت سافرة!

ولا أزيد –أيها القارئ الكريم- فمحاربة الإنسان للإنسانية قد تجاوزت كلَّ الحدود، ولم يبقى شيءٌ نتصوره أكثر مما جرى ويجري، فمحاولات (الهدم) قائمة على قدم وساق لا تهدأ هنيئة، وليتها تأتي لهدم عدوٍّ أو من هو في حكمه، ولكنَّ العجب إنَّها تتركز بقوة وعنف وشراسة بين المؤمنين، والأغرب من ذلك تشكُّلها بحسب الظرف، والغاية واحدة، هي: الهدم.

تلك حالة أشرتُ إليها في السطور السابقة، وهذه ثانية أشير إليها في اللاحقة..

الأولى نظرية (باب النجار مخلَّع)، وهذه نظرية أخرى لا تقلُّ سخافة عن سابقتها، وهي نظرية (بعده ما طلع من البيضة)!!

في موارد قرآنية وتاريخية نقف على أنَّ العمر ليس هو الميزان الوحيد في تقييم الإنسان، بل قد لا يكون ميزانًا أصلًا، وها هو جلَّ وعلا يقول (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، ناهيك عن أكثر من واحد من الأئمة (عليهم السلام) جاءه الدور الظاهري للإمامة وهو في سن صغير (ظاهرًا)، وخذ أيضًا تولية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أسامة بن زيد جيشًا من الرجال وهو لم يبلغ العشرين!

وكم من تلميذ تفوق على أستاذه، وكم من عبقري تجاوز عقله الآفاق وهو لم يبلغ الحلم بعد؟!!

كلُّ إنسان فهو يحتضن في داخله عملاقَ إبداعٍ وتألقٍ، ولو أنَّ بعضَ الظروف تُطاوع أمرَه لانطلق من داخله عملاقُه مبدعًا متألقًا، ولكنَّه –ويا للأسف- قد شاعتْ في مجتمعنا معاول قتل الإبداعات وإرهاب الفكرة، وهي معاول غاية في الخطورة؛ فشغلها الشاغل الوأد بعد التهشيم..

في مجتمعات (الإنسان) يحاط العامل الجاد والمبدع المتألق بعنايةِ فائقة من مختلف شرائح المجتمع الذي يبحث عن (الحيوان) ليحاول صناعته إنسانًا، فكيف بالإنسان عنده؟!!

ما أفهمه جيِّدًا هو إنَّ الحلول.. كلَّ الحلول ليست في يد غيرنا، بل هي في أيدينا، ولكنَّنا نُصِرُّ بشكل أسطوري على أن لا نرحم انفسنا، ولو قليلًا، هذا والحل ليس بالصعب المستصعب، فهو من أوَّلِه إلى آخره لا يخرج عن عنوان واحد..

(حبُّ الإنسان والخير له)..

فقط، وفقط..

تعالوا لنحب بعضنا البعض.. لنفرح من أجل بعضنا البعض..

تعالوا لنستشعر السعادة والرضى لنجاح الإنسانية في تسجيل مواقفها الجليلة بقوة وثبات، وكلُّ هذا يُضبَطُ بكون الواحد منَّا لا يرى الآخر إلَّا نفسه، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، وأمَّا القيادة فلقوله (صلى الله عليه وآله): “إنَّ الله يُحِبُّ المرء المسلم الذي يُحِبُّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه”.

فإذا كنتَ تحب لنفسك معايرة الآخرين لك بنقائص في أهلك، واستهزاءهم بصغر سنِّك أو حداثة عهدك بعلم أو ما شابه، فحينها قد هانت عليك، فاذهب بعيدًا؛ لآن غيرك لا تهون عليه نفسه.

 

السيد محمد علي العلوي

25 من ذي القعدة 1435 هجرية

20 سبتمبر 2014 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.