لا أتصور علاقة اجتماعية أكثر قداسة وجمالًا وألقًا من العلاقة بين الرجل والمرأة في إطارها الشرعي، والعناوين في هذا الصدد كثيرة قد تحدثت عنها كثيرًا في مقالات ومحاضرات سابقة، غير إنني في هذه السطور أريد عنوانًا آخرًا فَرَضَهُ الإنسانُ مُسْتَجْمِلًا إياه وهو في الحقيقة فأس يفلق هامة القداسة في الحياة الزوجية..
أحتاج لمقدمة بسيطة..
عندما نتحدث عن الحقوق الشرعية للزوج على الزوجة وللزوجة على الزوج، فإنَّ البعضَ.. ورُبَّما الأكثر يراها جمودًا بل وإجحافًا في حق الاثنين وخصوصًا الزوجة، وهذا فهمٌ خطيرٌ قد دفع الناسَ للاجتهاد في قبال النص قفزًا على رُقِّيه وتجاوزًا لرشاقته، وقد انتهتْ اجتهاداتُ الإنسانِ إلى استحداث مفاهيم جديدة ظنًّا منه بأنَّها الضامنة لحياة زوجية سعيدة!
أنتَ لي.. أنتِ مُلكي.. قفص من ذهب.. (مِحْبَسٌ).. وغيرها!
بحسب الموازين الجديدة فإنَّ (الحُبَّ) يُفرَضُ على الزوج للزوجة وعلى الزوجة للزوج، فتتحول العلاقة الزوجية إلى ملكِيَّة (استجدائية تارة وقانونية تارة أخرى) للعواطف والقلوب والعقول والأحاسيس، وهذا أمر يَجِدُّ المجتمع لترسيخه بالذهاب عريضًا في مظاهر الزفاف من حفلات وفساتين ومجوهرات وما نحو ذلك، وكأنَّ الرسالة المضمرة تنطق بحرمة هدم (ذكريات) هذه الليلة (ليلة العمر) بطلاق أو (زواج بثانية) أو ما نحو ذلك!
تحوَّل الأمرُ إلى ثَمَنٍ ومُثْمَنٍ، وبالرغم من ذلك فإنَّ معدلَ الطلاقِ في البحرين بحسب الإحصاءات الأخيرة قد تجاوز الخمسين حالة مقابل كل مئة عقد (نكاح)، وهذا بسبب تحول العلاقة الزوجية إلى جور وطغيان من الزوج ومن الزوجة في حق بعضهما البعض!
حدَّدَ الشارِعُ المقدَّسُ حقوقًا للزوجة على الزوج، وأخرى له عليها، ثُمَّ إنَّ بحِكْمَتِهِ ترك دائرة الشراكة بينهما بيدهما، يُوسِّعانها أو يضيِّقانها، لا بالفرض ولا بالقوانين ولا باستحداث مظاهر متخلفة حدَّ التخمة، ولكن بأدوات (تكوينية) أخرى.
ليس مِنْ حَقِّ الزوجة أنْ تعرف تحركات زوجها ولا علاقاته ولا شيء مِنْ خصوصياته، كما وإنَّه لا حَقَّ له في ملاحقة الهاتف الجوال لزوجته والعبث بأغراضها الخاصة والتجسس على مراسلاتها وما نحو ذلك..
ولكن..
إذا كان منها الحبُّ ومنه المودَّة.. ومنها اللطف والحنان ومنه الرحمة والبسمة..
إذا ما تبادلا الحكمة والعواطف في أجواء من الأدب والأناقة والرقي، فإنَّه وبشكل تلقائي لن يتأخر عن إشراكها في بعض خصوصياته، لا بفرض، ولكن عن محبة ومن إحساس بقربها منه وصدقها في حُبٍّ تصبه عليه برفق وحنان..
وإذا كان ذلك منه، فإنَّها لن تتأخر عن أن تمنحه ما لا يتوقع منها..
هذا هو (الإحسان) الذي طالما تحدث عنه الله تعالى في كتابه العزيز، وهو العطاء الزائد عن الفرض (و(هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)؟
ولو أن الإنسان يترك الاختيار لإنسانيته دون فروضٍ مُغَلَّفَةٍ بعناوين (بلهاء) وإن بدتْ (مرونقة)، فإنَّه حينها سوف يُبْدِعُ في مشاعره ويتألَّق..
نِسْبَةٌ (ليست بالقليلة) من الرجال لا يتزوجون بثانية.. أتدرون لماذا؟
جوابي: خوفًا من المشاكل!!
أها.. يعني ليس حُبًّا في الأولى التي من المفترض أن تكون قد ملأت قلبه؟!
تقول: يُحَبُّني أم لا.. هذا لا يهم طالما إنَّه (عندي) لا (عند غيري)!!
والله (بكسر الهاء) شَرُّ البلية ما يضحك.. كأنها تتحدث عن (وسادة) أو ربَّما (آي باد)! منطق غاية في (…).
أعي جيِّدًا موقف (نون النسوة) من هذه السطور، فمِنهُنَّ عاجزات عن مجرد التفكير في ما أحاول بيانه هنا، بل هُنَّ لا يردنَ التفكير فيه أصلًا، والسبب أنهنَّ قد استسلمنَ تمامًا لأوهام فرضتها قوانين مصطنعة اختلقها الإنسان بعد أن تحقَّقَ تَخَلُّفُه عن فهمِ ومواكبةِ البريق المفاهيمي الذي جاء به القرآن الكريم في خصوص العلاقة الزوجية..
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون )..
(هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ. .)
السكن.. المودة.. الرحمة.. اللباس..
هذه كلها فضائل راقية لا يمكن أن يُحَقِّقَها غيرُ الإحسان عقليةً وثقافةً وحِكْمَةً..
يطالب الرجل زوجته بالكثير، فهو يريدها زوجه.. يريدها مربية.. يريدها كلَّ شيء، والويل لها إن قصَّرتْ هنا أو هناك، هذا وهو الذي قلَّما يفكر في تدفئتها بكلمة (أُحِبُّكِ) تخرج من قلبه فتسكن وجدانها، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “قول الرجل للمرأة إني أحبُّك لا يذهب من قلبها أبدًا”..
للأسف.. فقد تعقَّدت العلاقات الزوجية بشكل كبير ربَّما أعجز عن بيانه في مقال، ولكنني أضع بين صفحات قلوبكم نصيحة..
ليس الحبُّ وحدةً سكنيةً تُطلبُ، ولكنَّه إحساس ينبع من عمق القلب فيجري حروفًا على اللسان، فلنتعلم الكفَّ عن طلب (الحبِّ) من الآخرين، ولنُتْقِنَنَّ خلقَه بالإنسانية وما جعل خالِقُها فيها من مودَّةٍ ورحمَةٍ وأدبٍ وحدود..
زوجُكِ ليس ملكك، فكفي عن ملاحقته، وأخرجي نفسك من دائرة (أنا وهي)، فإنَّكِ ولا أحد على وجه البسيطة يتمكن من امتلاك قلبٍ وإنْ حاصرَ الجسدَ وقيَّده بأعراف مختلقة كئيبة..
زوجتُكَ ليست جارية عندك ولا هي من باقي أملاكك، فتوقف عن تعييرها وتهديدها بالزواج من غيرها.. احترم نفسك قبل أن تطلب منها ما لا تستحق..
الحبُّ.. إنه فَنٌّ وجدانيٌّ يصنع المعاجز، فلنتعلمه ونعيش نسائمه..
السيد محمد علي العلوي
18 من ذي القعدة 1435 هجرية
13 سبتمبر 2014 ميلادية