بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين.
هذه رسالةٌ في مَسْألةِ تقديم إجابة المؤمن دعوة أخيه على صومه في غير شهر رمضان مِنَ المُستحبِّ وقضاء الفريضة، وما دعاني إلى تحريرها شِدَّةُ الحيرة العارضة على المؤمنين لِعَدَمِ وضوحِ المسألة بسبب محاولات تحديد ما يُدعى إليه من جهة الصنف والمقدار وما نحو ذلك، فقيل بالبقاء على الصوم إذا كان المدعو عليه مثل فنجان قهوةٍ أو قطعة حلوى أو ما شابه، وقيل بعدم شمول الأدلَّة الدعوة الَّتي تكون عن اتِّفاق مُسبَق، أو في مِثل قول الصائم: أنا صائم اليوم؛ فهل مِن داعٍ فأفطر؟
ثُمَّ إنَّ الحديث عن استحباب التطوع بالصوم وما عليه من ثواب عظيم وتأديب للنفس يفوق بكثير الحديث عمَّا في دعوة المؤمن لإخوانه وإجابتهم لدعوته مِن الثَّواب العظيم أيضًا، وبِسبب ذلك ينقبض المؤمنون عن تقديم إجابة الدعوة على صومهم.
نُمسِكُ في رسالتنا بحجزة الرِّوايات الشَّريفة لِنرى إلى أين تُفضي بِنَا فَنأخذ منها زادنا ونحمل زوَّادَنا. فمِن طوائفها في الباب ما صُرِّحَ فيها بِكَونِ إدخال السرور على الأخ المؤمن بإجابة دعوته أفضلَ مِنَ البقاء على الصيام وأعظمَ أجرًا منه. ومن ذلِك:
ما عَنِ اَلسَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قَالَ: “فِطْرُكَ لِأَخِيكَ اَلْمُسْلِمِ وَإِدْخَالُكَ اَلسُّرُورَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ صِيَامِكَ“[1].
وعَنْ مُوسَى بْنِ اَلْبِكْرِ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ)، قَالَ: “فِطْرُكَ لِأَخِيكَ وَإِدْخَالُكَ اَلسُّرُورَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنَ اَلصِّيَامِ وَأَعْظَمُ أَجْرًا“[2].
وعَنْ نَجْمِ بْنِ حُطَيْمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قَالَ: “مَنْ نَوَى اَلصَّوْمَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ فَسَأَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ عِنْدَهُ فَلْيُفْطِرْ وَلْيُدْخِلْ عَلَيْهِ اَلسُّرُورَ؛ فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ لَهُ بِذَلِكَ اَلْيَوْمِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا)[3]“[4].
وعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ بَعْضِ اَلصَّادِقِينَ (عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ)، قَالَ: “مَنْ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ وَهُوَ صَائِمٌ تَطَوُّعًا فَأَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، أَجْرٌ لِنِيَّتِهِ لِصِيَامِهِ، وَأَجْرٌ لِإِدْخَالِ اَلسُّرُورِ عَلَيْهِ“[5].
تقع هذه الروايات موردًا من موارِد إدخال السرور على قلب المؤمن؛ وهو مِمَّا يبعث عليه الدِّين الحنيف واستفاض عن المعصومين (عليهم السَّلام)؛ مِثل ما عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) أنَّه قال: “مِنْ أَحَبِّ اَلْأَعْمَالِ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِدْخَالُ اَلسُّرُورِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ إِشْبَاعُ جَوْعَتِهِ أَوْ تَنْفِيسُ كُرْبَتِهِ أَوْ قَضَاءُ دَيْنِهِ“[6].
وعن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: “تَبَسُّمُ اَلرَّجُلِ فِي وَجْهِ أَخِيهِ حَسَنَةٌ وَ صَرْفُ اَلْقَذَى عَنْهُ حَسَنَةٌ وَ مَا عُبِدَ اَللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اَللَّهِ مِنْ إِدْخَالِ اَلسُّرُورِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ“[7].
وفي رواية مُفضَّل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) بيانُ أنَّ إدخالَ المؤمن السرور على أخيه هو في حقيقته إدخال للسرور على المعصومين (عليهم السَّلام)؛ إذ قال: “لاَ يَرَى أَحَدُكُمْ إِذَا أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا أَنَّهُ عَلَيْهِ أَدْخَلَهُ فَقَطْ بَلْ وَ اَللَّهِ عَلَيْنَا بَلْ وَ اَللَّهِ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ“[8]، ولذلك ورد عن الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: “مَنْ سَرَّ مُؤْمِنًا فَقَدْ سَرَّنِي وَ مَنْ سَرَّنِي فَقَدْ سَرَّ اَللَّهَ“[9].
نُكتةٌ في المقام:
لا تنبغي الغفلةُ عن أنَّ للسرورِ الداخل على أئمَّة الهُدى وعلى رأسهم الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، بل وسرور الله تعالى بسبب سرور المؤمن واقِعًا في قيمة إدخال السرور على المؤمن، وإلَّا فقد يسرُّ المُؤمِنُ سُرورًا لا يُسرُّ له النبيُّ والأئمَّةُ (عليهم السَّلام)، كسروره إذا فاز فرسُه في السِّباق مَثَلًا، أو ما نحو ذلك مِن أمور الدُّنيا. إلَّا أنْ نقول عَنْ مِثلِه (فَرَحًا) اعتمادًا على تفريق أبي هلال العَسكري؛ حيثُ يقول: “الفَرْقُ بَينَ السُّرُورِ وَالفَرَحِ: أَنَّ السُّرُورَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا هُوَ نَفْعٌ أو لَذَّةٌ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الفَرَحُ بِمَا لَيسَ بِنَفْعٍ وَلَا لَذَّةٍ؛ كَفَرَحِ الصَبِيِّ بِالرَّقْصِ وَالعَدْوِ وَالسِّبَاحَةِ”[10].
ومهما يكن؛ فإنَّ لسرور المؤمن قيمةً عظيمةً؛ كيف لا، وهو سبب لسرور الأئمة الكرام والرسول الأعظم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وربِّ الأرباب سبحانه وتعالى، وقريبًا إن شاء الله تعالى سوف ترى أنَّ سرورَ المؤمن لإجابة أخيه دعوته طبيعةٌ فيه لا تُفارقه من حيثُ كونه مؤمنًا وما دام الإيمان حيًّا في قلبه.
إنَّ سؤالَ الأصحاب عن المطلوب من الصائِم تطوُّعًا إذا دعاه أخوه المؤمن لطعامٍ أو شَرابٍ مُخْبِرٌ عن تَنَبُّهِهم إلى وقوع تزاحُمٍ يحتاج فيه المُؤمِنُ إلى تحديد المُقدَّمِ على الآخر شَرْعًا، وقد جاء الجواب بتقديم إجابة دعوة المؤمن.
النهي عن عدم إجابة المؤمن دعوة أخيه المؤمن:
ورد عنهم (عليهم السَّلام) النَّهي عن عدم إجابة المؤمن دعوة أخيه المؤمن، ومن ذلك ما رواه الشَّيخُ الصدوقُ (رحمه الله) بسنده عن البَراء بن عازب، قال: “نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) عَنْ سَبْعٍ وَأَمَرَ بِسَبْعٍ؛ نَهَانَا أَنْ نَتَخَتَّمَ بِالذَّهَبِ، وَعَنِ …” إلى أن قال: “وَأَمَرَنَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِاتِّبَاعِ اَلْجَنَائِزِ، …“، إلى قوله: “وَإِجَابَةِ اَلدَّاعِي“[11].
وروى في قُربِ الإسناد عن أبي البَحتَري، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، عن أبيه (عليه السَّلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “ثَلاَثَةٌ مِنَ اَلْجَفَاءِ: أَنْ يَصْحَبَ اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ فَلاَ يَسْأَلَهُ عَنِ اِسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، وَأَنْ يُدْعَى اَلرَّجُلُ إِلَى طَعَامٍ فَلاَ يُجِيب أَوْ يُجِيب فَلاَ يَأْكُلَ، وَمُوَاقَعَةُ اَلرَّجُلِ أَهْلَهُ قَبْلَ اَلْمُدَاعَبَةِ“[12].
وفي الكافي بسنده عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله): “أُوصِي اَلشَّاهِدَ مِنْ أُمَّتِي وَاَلْغَائِبَ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ اَلْمُسْلِمِ وَلَوْ عَلَى خَمْسَةِ أَمْيَالٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ اَلدِّينِ“[13].
وفي المحاسن بسنده عن مُعلَّى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “مِنَ اَلْحُقُوقِ اَلْوَاجِبَاتِ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَتَهُ“[14].
وعن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: “مِنْ أَعْجَزِ اَلْعَجْزِ رَجُلٌ دَعَاهُ أَخُوهُ إِلَى طَعَامٍ فَتَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ“[15].
هذا من جهة المدعو، أمَّا المؤمنُ صاحِبُ الدَّعوَةِ فهو أيضًا يمتثل أمرَ الله تعالى ويتقرَّب إليه عزَّ وجلَّ بدعوة الإخوان من المؤمنين؛ ففي الرواية عن ربعي بن عبد الله بن الجارود، قال: قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): “مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ فِي اَللَّهِ كَانَ لَهُ مِنَ اَلْأَجْرِ مِثْلُ مَنْ أَطْعَمَ فِئَامًا مِنَ اَلنَّاسِ. قُلْتُ: وَمَا اَلْفِئَامُ مِنَ اَلنَّاسِ؟ قَالَ (عليه السَّلام): مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ اَلنَّاسِ“[16].
وفي ثواب الأعمال بسنده عن علي بن أبي الهني، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: قال: “مَنْ أَطْعَمَ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَطْعَمَهُ اَللَّهُ مِنْ ثَلاَثِ جِنَانٍ؛ مَلَكُوتِ اَلسَّمَاءِ اَلْفِرْدَوْسِ، وَجَنَّةِ عَدْنٍ، وَطُوبَى، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ غَرَسَهَا رَبِّي بِيَدِهِ“[17].
فدعوة المؤمن لأخيه أو لإخوانه ليس أمرًا ترفيًّا، بل هو من الأمور الَّتي يفترض أن تكون مِمَّا يُطلب بها رضا الله تعالى، وللمؤمن عناية خاصَّة بكلِّ ما يكون طريقًا لرضاه جلَّ في علاه، وغير ذلك لا بدَّ مِن التنبُّه جيِّدًا إلى أنَّ حُبَّ المؤمن للالتقاء بإخوانه ودعوتهم لداره ومائدته، بل وما عنده ليشاركوه فيه، قليلًا كان أو كثيرًا، هو أمرٌ في جِبِلَّتِه وطبيعة إيمانه.
العبادة (بالمعنى الأعم)[18]وبقاء الحكم حتَّى مع إحراز عدم دخول السُّرور على المؤمن الدَّاعي بإجابة دعوته:
لا شكَّ في أهميَّةِ وقيمَةِ حيثية العبادة وقصد رضاه سبحانه وتعالى في الدَّعوة وإجابتها، ولكنَّ الغفلة عنها؛ أعني الحيثيَّة العباديَّة، لا تُسقط استحباب الدعوة واستحباب إجابتها، وكذلك لا يُسقطه عدمُ ظهور السرور على الدَّاعي عند إجابة دعوته؛ إذ أنَّ لِنَفسِ إجابة المؤمن دعوةَ أخيه المؤمن اعتبارًا شرعيًا تُبيِّنُهُ جِهتَان؛ إحداهما استحباب الدَّعوة، والأخرى فرض إجابتها والنهي عن ردِّها أو عن الإعراض عنها، وهذا الأخير هو الَّذي يقع في قِبَال بقاء الصائم على صومه حتَّى لو كان قضاءً؛ ففي الرواية عَنْ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْخَثْعَمِيِّ، قَالَ: “سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عَنِ اَلرَّجُلِ يَنْوِي اَلصَّوْمَ فَيَلْقَاهُ أَخُوهُ اَلَّذِي هُوَ عَلَى أَمْرِهِ. أَيُفْطِرُ؟
قَالَ: إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا أَجْزَأَهُ وَحُسِبَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَضَاءَ فَرِيضَةٍ قَضَاهُ”[19].
حيثيَّة سرور صاحب الدَّعوة:
إنَّ تكرُّرَ ذكر المعصوم (عليه السَّلام) لـ(السرور) الدَّاخل على المؤمن عند استجابة أخيه المؤمن لدعوته بيانٌ لحاله، وبيانٌ لما ينبغي أن يكون عليه في ظروف ضيافته لإخوانه وإطعامهم، وهو حسنةٌ زائدةٌ على ما يرجع إليه فرضُ إجابة المؤمن لدعوة أخيه، وليس حيثيَّة تقييديَّة، بل هو من جهة كون صاحب الدَّعوة مُؤمِنًا حيثيَّةٌ تعليليَّة مُعرِّفَة لا مُقوِّمة؛ فمن شأن المؤمن أن يسر بالضيف المؤمن وبأن يدعوه إلى ضيافته والأكل من مائدته.
وفي روايات أخرى جاء فرض الإجابة دون ذكرٍ لحيثيَّة (إدخال السرور)، منها:
ما عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قَالَ: “إِفْطَارُكَ لِأَخِيكَ اَلْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِكَ تَطَوُّعًا“[20].
وعَنْ حُسَيْنِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قَالَ: “إِذَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ كُلْ، وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَكُلْ وَلاَ تُلْجِئْهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْكَ“[21].
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي اَلْحَسَنِ اَلْمَاضِي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): “أَدْخُلُ عَلَى اَلْقَوْمِ وَهُمْ يَأْكُلُونَ، وَقَدْ صَلَّيْتُ اَلْعَصْرَ وَأَنَا صَائِمٌ، فَيَقُولُونَ أَفْطِرْ!
فَقَالَ: أَفْطِرْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ“[22].
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): “يَدْعُونِي اَلرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ يَوْمُ صَوْمِي!
قَالَ: أَجِبْهُ وَأَفْطِرْ“[23].
وعَنْ دَاوُدَ اَلرَّقِّيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يَقُولُ: “لَإِفْطَارُكَ فِي مَنْزِلِ أَخِيكَ اَلْمُسْلِمِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِكَ سَبْعِينَ ضِعْفاً أَوْ تِسْعِينَ ضِعْفًا“[24].
قد تكون في رواية حُسين بن حمَّاد إشارة إلى حُبِّ الدَّاعي أن يجيب المدعو دعوته، نفهمها من قوله (عليه السَّلام): “وَلاَ تُلْجِئْهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْكَ“، إلَّا أنَّ الأمر كما بيَّناه مِن كون ثبوت الاعتبار الشَّرعي لنفس (الدَّعوة).
أمَّا رواية حُسَيْنِ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: “قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أَدْخُلُ عَلَى اَلرَّجُلِ وَأَنَا صَائِمٌ فَيَقُولُ لِي أَفْطِرْ.
فَقَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِ فَأَفْطِرْ“[25] فالظاهر أحدُ أمرين؛ أولهما انصرافها عن الأخ المؤمن، والآخر أنْ تُحمَل على عدم كون دعوته لِحَياءٍ عَرَضَ عليه بدخول السَّائِل، أي أنَّ إجابة الدعوة مشروطة بأنْ لا تكون عن حياءٍ لو لاه لَمَا دَعَاه، وبعبارة أوضح: إنَّ الدَّاعي في وَاقِعِهِ كارِهًا لِأن يدعو الدَّاخل عليه، ولكنَّه دعاه حياءً وتكلُّفًا، لا حُبًّا. ولا تكلُّف في الحمل بالنظر إلى استفاضة الروايات الآمرة للمؤمن بإجابة دعوة أخيه المؤمن دون شرط أو قيد.
وقوَّى ما ذكرناه ولدُنا أبو الحُسينِ[26]؛ حيثُ قال: “الواقع أنَّ الأصل في المؤمن أن يكون إطعام الأخ المؤمن عنده أحب إليه دائمًا؛ ويدلُّ عليه ما عن حسين بن نعيم الصحَّاف، قال: قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): “أَتُحِبُّ إِخْوَانَكَ يَا حُسَيْنُ؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): تَنْفَعُ فُقَرَاءَهُمْ؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أَمَا إِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تُحِبَّ مَنْ يُحِبُّ اَللَّهُ، أَمَا وَاَللَّهِ لاَ تَنْفَعُ مِنْهُمْ أَحَدًا حَتَّى تُحِبَّهُ. أَتَدْعُوهُمْ إِلَى مَنْزِلِكَ؟
قُلْتُ: نَعَمْ، مَا آكُلُ إِلاَّ وَمَعِيَ مِنْهُمُ اَلرَّجُلاَنِ، وَاَلثَّلاَثَةُ، وَاَلْأَقَلُّ، وَاَلْأَكْثَرُ..
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): أَمَا إِنَّ فَضْلَهُمْ عَلَيْكَ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِكَ عَلَيْهِمْ“[27] الحديث.
وأن تكون الدعوة في رواية حسين بن حمَّاد مُردَّدَةً بين المحبوبيَّة وعدمها (إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِ فَأَفْطِرْ) يُقَوي أنَّه إمَّا مِنْ غير المؤمنين أو أنَّه تكلَّف الدعوة”.
وأضاف (حرَسَه الله) في ما يخصُّ احتمال تكلُّف الدعوة: “ينبغي التنبُّه إلى خطأ هذا التكلُّف؛ لِمَا جاء في مُرسَل علي بن الخطَّاب الخَلَّال عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “أَتَاهُ مَوْلًى لَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَمَعَهُ اِبْنُهُ إِسْمَاعِيلُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ، فَلَمَّا اِنْصَرَفَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اِنْصَرَفَ مَعَهُ اَلرَّجُلُ، فَلَمَّا اِنْتَهَى أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إِلَى بَابِ دَارِهِ دَخَلَ وَتَرَكَ اَلرَّجُل.َ فَقَالَ لَهُ اِبْنُهُ إِسْمَاعِيلُ: يَا أَبَتِ أَلاَ كُنْتَ عَرَضْتَ عَلَيْهِ اَلدُّخُولَ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِي إِدْخَالُهُ.
قَالَ: فَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ!
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يَا بُنَيَّ؛ إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَنِي اَللَّهُ عَرَّاضًا“[28].
أقول: هذا والعرضُ محبوبٌ ومطلوبٌ من الدِّين الحنيف، ففي رواية الكليني بسنده عن عبد الله بن محمَّد الطيار “أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) كَانَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَقَفُوا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَسَاءَلُوهُمْ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَدَعَوْا وَ أَثْنَوْا وَقَالُوا: لَوْ لاَ أَنَّا عِجَالٌ لاَنْتَظَرْنَا رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، فَأَقْرِءُوهُ مِنَّا اَلسَّلاَمَ. وَمَضَوْا.
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مُغْضَبًا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَقِفُ عَلَيْكُمُ اَلرَّكْبُ وَيَسْأَلُونَكُمْ عَنِّي وَيُبَلِّغُونِّي اَلسَّلاَمَ وَلاَ تَعْرِضُونَ عَلَيْهِمُ اَلْغَدَاءَ! لَيَعِزُّ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ خَلِيلِي جَعْفَرٌ أَنْ يَجُوزُوهُ حَتَّى يَتَغَدَّوْا عِنْدَهُ“[29].
وفي الكافي رَفَعَتْهُ عِدَّةٌ إلى أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “إِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ أَخُوكَ فَاعْرِضْ عَلَيْهِ اَلطَّعَامَ فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَاعْرِضْ عَلَيْهِ اَلْمَاءَ فَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ فَاعْرِضْ عَلَيْهِ اَلْوَضُوءَ“[30].
والشَّرط كما هو واضح مِن مُرسل الخَلَّال أن يكون العرضُ عن استعدادٍ، أمَّا إذا لم يكن مِن شأنِك أن تعرض فلا يبقى العرض مطلوبًا للدين الحنيف حتَّى مع عِلمك بأنَّ من تدعوه لن يلبي دعوتك، ولذلك قال الإمام (عليه السَّلام): “إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَنِي اَللَّهُ عَرَّاضًا“.
مِنْ أدَبِ المُؤمِن إجَابَةُ الدَّعوةِ وعدم الإخبار عن الصوم:
عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: “دَخَلْتُ عَلَى جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ خِوَانٌ عَلَيْهِ غَسَّانِيَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَقَالَ: اُدْنُ فَكُلْ.
فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ. فَتَرَكَنِي حَتَّى إِذَا أَكَلَهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ اَلْيَسِيرُ عَزَمَ عَلَيَّ أَلاَّ أَفْطَرْتَ. فَقُلْتُ لَهُ: أَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ اَلسَّاعَةِ!
فَقَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَدَبَكَ. ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ مُؤْمِنٍ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَسَأَلَهُ اَلْأَكْلَ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِصِيَامِهِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ بِإِفْطَارِهِ كَتَبَ اَللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُ بِذَلِكَ اَلْيَوْمِ صِيَامَ سَنَةٍ“[31].
أخطأ صالحُ بنُ عُقْبَةَ عندما أخبر داعيه جميل بن درَّاج بأنَّه صائم، وكان جميل مُدرِكًا لخطأ صالح، وأراد تأديبه بتركه، ثُمَّ إنَّه بيَّن أدب الصائم في إجابة دعوة أخيه المؤمن، وقد جاء عنه أنَّه قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): “مَنْ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَفْطَرَ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِصَوْمِهِ فَيَمُنَّ عَلَيْهِ كَتَبَ اَللَّهُ لَهُ صَوْمَ سَنَةٍ“[32].
أمَّا المِنَّة المُتصوَّرة فهي أن يكون الصائمُ سببًا في ثواب المضيف بإفطاره عنده، ويمنُّ عليه بذلك.
زُبدَةُ المَخَاض:
تُقدَّمُ إجابة دعوة المؤمن دائِمًا في غير صوم شهر رمضان، وصوم قضاء الفريضة، ولا دخل لقيمة المدعو عليه في فرض الإجابة، فحتَّى لو كان عند الدَّاعي جوزتين ودعا أخاه على إحداهما، أو على فنجان قهوة، أو ما شابه، فالدَّعوة إنَّما هي لِكَرَمِ الدَّاعي ولحُبِّه أن يُكرِمَ أخاه المؤمن، وفي ذلك رضا الله سبحانه سواءً قصده الدَّاعي أم لا. ولا يتغيَّر فرضُ التقديم، حتَّى لو كان الوقت بعد الزوَّال.
ثُمَّ إنَّه خلافٌ لأدب المؤمنين ردُّ الدَّعوة وإخبار الصائم داعيه بأنَّه صائم، بل من الأدب قبول الدَّعوة وعدم الإخبار، ومن الأدلَّة على ذلك يُفهم ما في الاتِّفاق المُسبَق بين مُؤمنين بأن يقول أحدهما للآخر مثلًا: سوف أصوم غدًا وأجيب دعوتك على الغداء. ولكن لا بأس في صومه مع علمه بالدعوة مُسبَقًا، على أن لا تكون نيَّة الصوم منعقدة على الإفطار للدعوة بحيث لو ألغيت لحصل في نفسه شيء. فتأمَّل.
أمَّا سؤال بعض المؤمنين عن تقديم إجابة الزوج زوجته إذا دعته لنفسها، أو الزوجة زوجها إذا دعاها، على بقاء المدعو على صومه فالأدلة منصرفة عنه غير شاملة له. وإن قيل بتقديم الإجابة في بعض الموارد فلأدلة أخرى.
هذا والله العاصم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
24 شوَّال 1446 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………….
[1] – المحاسن -البرقي- ج2 ص412.
[2] – المصدر السَّابق.
[3] – سورة الأنعام: 160.
[4] – الكافي -الكليني- ج4 ص150.
[5] – علل الشرائع -الصدوق- ج2 ص387.
[6] – الكافي -الكليني- ج2 ص192.
[7] – الكافي -الكليني- ج2 ص188.
[8] – الكافي -الكليني- ج2 ص189.
[9] – الكافي -الكليني- ج2 ص188.
[10] – الفروق اللغوية -أبو هلال العسكري- ص277-278.
[11] – الخصال -الصدوق- ج2 ص345.
[12] – قرب الإسناد -الحميري- ج1 ص16.
[13] – الكافي -الكليني- ج6 ص274.
[14] – المحاسن -الصدوق- ج2 ص410.
[15] – المحاسن -الصدوق- ج2 411.
[16] – الكافي -الكليني- ج2 ص202.
[17] – ثواب الأعمال وعقاب الأعمال -الصدوق- ج1 ص136.
[18] – أعني: أن يقصد رضى الله سبحانه وتعالى، وليس القصد العبادي في قبال التوصلي.
[19] – الكافي -الكليني- ج4 ص122.
[20] – الكافي -الكليني- ج4 ص150.
[21] – المحاسن -البرقي- ج2 ص412.
[22] – الكافي -الكليني- ج4 ص151.
[23] – المصدر السَّابق ص412.
[24] – المصدر السَّابق ص151.
[25] – المحاسن -البرقي- 2 ص411.
[26] – ولدنا السَّيد علي (رعته عين الله تعالى)، وهو مِمَّن أثق بملاحظاته وتعليقاته. أسأل الله سبحانه أن يبقيه في خير وعافية، وأن يزيده عِلمًا وفهمًا، وحكمةً وبصيرةً.
[27] – الكافي -الكليني- ج2 ص201.
[28] – المحاسن -البرقي- ج2 ص417.
[29] – الكافي -الكليني- ج4 ص275.
[30] – المصدر السَّابق.
[31] – المصدر السَّابق.
[32] – المصدر السَّابق.