بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
تمُرُّ اليوم الذكرى المِئَتَينِ وَتِسْعٍ وَخَمْسِين عَلى وَفاة شيخنا المُكرَّم الشَّيخِ يُوسُفَ بنِ أحمدَ بنِ إبراهِيم مِن آلِ عُصفور البحراني (طاب رمسُه)، وإنَّنَي إذ أذكر قامة العلم والتُقى أُطَارِحُ لِجَامَ قَلَمِي لَعَلَّه يقرُّ ساعةً فيكفيني غائلةَ الغلوِّ وشَطَطَ الارتِفَاعِ في القول، فرضوان الله تعالى عليك أيُّها العالِم العَلَم، وَعيلم العلم والفهم والمعرفة..
أنْعَمَ اللهُ سبحانه وتعالى على شيخنا البحراني (علا برهانه) بِروحٍ متألِّقة وصدر رَحِبٍ وذهن مُتَّقِد حتَّى جَمَع الفضائل والكمالات فأصبح من القلائل الذين لا تزال القلوب تشعر بنبض إيمانهم وحكمة علمهم تجوب النُّفوس فيلتقيها كلُّ مَن نَشَد عِلمًا وحكمةً.
كيف لا، وَقَد أجرى لِسان المُحدِّثِين في يراعةِ أهل الاستدلال والاستنباط فأبدع حدائق لا سابق لها ولا لاحق، يانِعَةً بأحاديث العِترة الطاهِرةِ، نَضِرَةً بِحسن الاستدلال وَقوَّة الاستنباط، وها هي دون كلِّ مُنصِفٍ حصيف.
أحفَظُ في هذه المقالةِ شَاهِدًا واحِدًا علَى ما كان لشيخنا البحراني (زاد الله تعالى مرقده طيبًا ونورًا) مِن عظمةِ نَفسٍ قد صانها فحَفِظَ دينَه، وخالف على هواه مُطيِعًا لأمر مولاه حتَّى جسَّد حقيقةَ العالِمِ الحَقِّ كَمَا أراد السَّادةُ الميامين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
قال في حدائق الخير والصَّلاح: “وَقَد كُنْتُ في أوَّلِ الأمْرِ مِمَّنْ يَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ الأخْبَارِيينَ، وَقَدْ أكْثَرْتُ البَحْثَ فِيِهِ مَعَ بَعْضِ المُجْتَهِدِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا المُعَاصِرينَ، وَأوْدَعْتُ كِتَابِي المَوسُوم بِالمَسَائِلِ الشِّيِرَازِيَّةِ مَقَالَةً مَبْسُوطَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الأبْحَاثِ الشَّافِيَةِ وَالأخْبَارِ الكَافِيَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَتُؤَيِّدُ مَا هُنَالِكَ. إلَّا إنَّ الَّذِي ظَهَرَ لِي- بَعْدَ إعْطَاءِ التَّأمُّلِ حَقَّهُ فِي المَقَامِ وَإمْعَانِ النَّظَرِ فِي كَلَامِ عُلَمَائِنَا الأعْلَامِ- هُوَ إغْمَاضُ النَّظَرِ عَنْ هَذَا البَابِ وَإرْخَاءُ السِّتْرِ دُونَهُ وَالحِجَابِ، وَإنْ كَانَ قَدْ فَتَحَهُ أقْوَامٌ وَأوسَعُوا فِيِهِ دَائِرَةَ النَّقْضِ وَالإبْرَامِ.
(أمَّا أوَّلًا) فَلاسْتِلْزَامِهِ القَدْحَ فِي عُلَمَاءِ الطَّرَفَينِ وَالازْدِرَاءِ بِفُضَلَاءِ الجَانِبَينِ كَمَا قَدْ طَعَنَ بِهِ كُلٌّ مِنْ عُلَمَاءِ الطَّرَفَينِ عَلَى الآخَرِ، بَلْ رُبَّمَا انْجَرَّ القَدْحُ فِي الدِّينِ سِيَّمَا مِنَ الخُصُومِ المُعَانِدِينَ …”
“ومن أخلاقه العالية ما نقله صاحب (علماء البحرين) من أن البهبهاني سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، فَقَالَ: (لَا تَصُحُّ). وَسُئِلَ الشَّيخُ يُوسُفُ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ البَهْبَهَانِي، فَقَالَ: (تَصُحُّ).
وَلَمَّا رَأى اسْتِغْرَابَ السَّائِلِ قَاَل رَحِمَهُ الله: وَأيَّة غَرَابَةٍ في ذَلِكَ؟ إنَّ وَاجِبِي الشَّرْعِي يُحَتِّمُّ عَلَيَّ أنْ أقُولَ مَا أعْتَقِد، وَوَاجِبُهُ الشَّرْعِي يُحَتِّمُّ عَليْهِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَعَلَ كُلٌّ مِنَّا بِتَكْلِيِفِهِ وَوَاجِبِهِ، وَهَلْ يَسْقُطُ عَنْ العَدَالَةِ لِمُجَرَّدِ ألَّا يُصَحِّحُ الصَّلَاةَ خَلْفِي؟”.
لَمْ يَحتَجْ شيخنا البحراني (طاب رمسه) إلى مَن يتحدَّثُ عنه ويكتب في مناقبه؛ فَكُتُبُهُ تَحْكِيِهَا وَقَدْ غطَّى صَفَحَاتِهَا نَدَى طِيِبِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسَلَامَةِ نَفْسِهِ وَرُجْحَانِ عَقْلِهِ، فَلَا تُسْتَغْرَبُ قِصَّةٌ في عظيم فضائِلِه، وَلَا يُنْكَرُ عَلَى شَاهِدٍ لَو رَوَى مَا قَد يُقَال عَنْه ارتِفاعًا أو ما في حُكمِه؛ فإنَّ رحابة صدر الشَّيخ (قدَّس اللهُ نَفْسَهُ) الظاهرة في مناقشاته للآراء، واستعداده للتراجع والتصحيح، وتأدُّبُه العظيم بين يدي النصوص الشريفة، وتحمله لمسؤولية التتبع العميق للمصنفات والرسائل العلمية كما يظهر من كلامه في اللؤلؤة عند وصفه لنتاج الأعلام، كل هذا يبين بوضوح شديد جمال مروءته كمؤمن وكعالم قد آتاه الله تعالى من عظيم فضله.
كان بودي أن أكتب بحثًا يليق بشيءٍ مِن عظمة يُوسُف العلماء (رفع الله تعالى في الفردوس درجاته)، ولكنَّ اليدَ قاصِرَةٌ مَع ما ابتُلِينا به من مشاغل وشواغل.
أرَاهُ واللهِ رُوحًا رقراقًا لا أصفُ جماله..
وكتبه
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
4 ربيع الأوَّل 1445 للهجرة
البحرين المحروسة