لقد كان سُنَّةً من سنن السابقين، ومقدِّمةً لازمةً لكلِّ من أراد أن يسلك طلب العلم، بل وغيرهم كذلك، نعم كان التَّحفيظُ اللَّبِنَةَ الأولى لبناء صرحٍ علميٍّ يبرع في قادم الأيام.
يمكن في هذا المقام الحديثُ عن الفوائد الجمَّة التي تورثه اتِّباع هذه السُنَّة الحسنة، ولكنني لستُ بصدد ذلك بصورةٍ مباشرة، وإن استفيد ذلك بنحوٍ أو بآخر. ومع تجاوز كون بعض المحفوظات مطلوبةً من ناحيةٍ إلهيَّةٍ -إن صحَّ التَّعبير-، كحفظ القرآن الكريم وحفظ الحديث الشَّريف لأهل بيت العصمة (عليهم السلام) وحفظ بعض الأشعار، من ذلك ما ورد في الحديث الشَّريف عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: “الحافظ للقرآن العامل به مع السَّفَرَةِ الكرامِ البَرَرَة”، وعنه (عليه السَّلام): “إنَّ الذي يُعالِجُ القرآنَ ويحفظه بِمَشَقَّةٍ منهُ وقِلَّةِ حِفظٍ له أجْران”، وكذلك في الحديث عن الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه قال: “مَن حفظ على أمَّتي أربعين حديثًا مِمَّا يحتاجون إليه في أمر دينهم بعثه الله (عزَّ وجلَّ) يوم القيامة فقيهًا عالِمًا”[1]، وروي عن أبي عبد الله الصَّادق (عليه السلام) أنَّه قال: “كان أميرُ المؤمنين (عليه السلام) يُعْجِبُهُ أن يُروَى شِعرُ أبي طالبٍ، وأن يُدَوَّنَ، وقال: تعلَّموه وعلِّموه أولادَكم؛ فإنَّه كان على دين الله، وفيه عِلمٌ كثير”، وكذلك عنه (عليه السَّلام): “يا معشر الشِّيعة علِّموا أولادَكم شِعرَ العبديِّ فإنَّه على دينِ الله”[2].
هذه الجهاتُ الشَّريفةُ ليست هي مدار حديثي، بل أردتُ الإشارة في هذه المقالة إلى أنَّ الحِفظ هو المقدِّمة الوجوديَّة الطبيعيَّة لنموّ شخصيَّة طالب العلم الرَّصينة، وإنَّني إذ أتحدَّث عن هذا الموضوع، يحضرني كلامٌ كنت قد قرأته في سالف السَّنوات في (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) لثاني الشَّهيدَين الشيخ زين الدِّين بن عليٍّ العامليِّ (رحمه الله)، حيث يستهلُّ القسم الثالث من الآداب المختصَّة بالمتعلِّم في درسه وقراءته وما يعتمده حينئذٍ مع شيخه ورفقته، قائلاً: “الأوَّل: -وهو أهمُّها- أن يبتدئ أوَّلاً بحفظ كتاب الله تعالى العزيز حفظًا مُتقَنًا، فهو أصلُ العلوم وأهمُّها، وكان السَّلف لا يعلِّمون الحديث والفقه إلاَّ لمن حفظ القرآن. وإذا حفظه فليحذرْ من الاشتغال عنه بغيره اشتغالاً يؤدِّي إلى نسيان شيءٍ منه أو تعريضه للنِّسيان، بل يتعهَّد دراسته وملازمةَ وردٍ منه كلَّ يومٍ ثم أيَّامٍ ثمَّ جمعةٍ دائمًا أبدًا. -ويقول بعد ذلك- ثمَّ يحفظُ من كلِّ فنٍّ مُختصَرًا يجمَعُ فيه بين طَرَفَيه، ويُقَدِّمُ الأهمَّ فالأهَمَّ على ما يأتي تفصيلُه …”.
فلْنتصوَّر أنَّ نجَّارًا ماهرًا في صَنعته يريد الشُّروع في العمل، وُجود السَّرير أو الباب أو الصّندوق أو أي عملٍ آخر يتوقَّف على شيءٍ، نعم هو متوقِّفٌ على أمرٍ معروفٍ لدى الجميع هو الخشب، فالنَّجار ماهرٌ والأدوات موجودة، إلاَّ أنَّ مادَّة الصُّنع غيرُ متحصَّلة، سيظَلُّ هذا النَّجارُ عديمَ الحيلة لا يستطيع فعل شيء.
مَثَلُ هذا كمَثَلِ من شَرَعَ في دراسة علوم اللُّغة، هو يعلم بمفاد القاعدة النَّحوية، والصَّرفية، وقد نقول البلاغيَّة، ويعلم أمورًا في العروض والقافية، إلاَّ أنَّنا ندعوه لكتابة مقطوعةٍ أدبيَّة، أو ينظم أبياتًا من الشِّعر الجيِّد، سنراه عاجزًا، نعم عاجزًا كلَّ العجز عن ذلك، وكأنَّه لا يدري في أيِّ أرض يسير ويتحرَّك، وبأيِّ مادَّةٍ يتصرَّف ويبني ما يريدُ بناءَه، لِمَ كان ذاك وهو لا يكذب في ادِّعائه دراسة هذه العلوم؟ كان ذلك لأنَّه على أرضٍ جدباء لا تحمل بذرًا كي ينبت منها أيُّ ثمرٍ.
لطالما بلغنا عن أهل الاختصاص ينصحون مريدي كتابة الشِّعر بأنَّ حفظ القصائد عليكم واجب، نعم لقد كان أحد أكابر شعراء العصر يُلزِمُه والده بأن يحفظ في كلٍّ يومٍ خطبةً من نهج البلاغة وقطعةً من أمالي القالي وقصيدةً من ديوان المتنبي وبعد ذلك يرسله للَّعب مع أقرانه إن شاء!، ولذلك فقد نبغ سريعًا في شاعريَّته ووصف فيما بعد بأمير شعراء عصره!
نجدُ النُّحاةَ وغيرَهم يأتون بصدرٍ لبيت شاعر من الشعراء وهم يسترسلون في كتبهم، ولا يجدون كلفةً لذكر القصيدة كاملةً أو مقطعًا منها أو حتَّى البيت تامًّا، وذلك لأنَّ التَّباني كان على أنَّ من سيقرأ كتابي لن يجد عسرًا في فهم مرادي، فهو يحفظ القرآن والحديث وكثيرًا من الشِّعر مثلي، الأمر الذي يجعلني وإيَّاه في تقاربٍ فكريٍّ واحد ويُسْرٍ في الإرجاع والمناقشة.
ولا نَظُنَّنَ بأنَّ ذلك مقصورٌ على علوم اللُّغة، إنَّما قدَّمتُ بها لكون الحفظ فيها ألزم من غيرها، وإلاَّ فمن يدَّعي بأنَّ بحثه التفسيري في القرآن الكريم يكون مقاربًا للصَّواب إذا لم يلتفت لسائر السّور والآيات؟ هل بإمكانه استحضار المنظومة القرآنيَّة إذا لم يكن حافظًا عن ظهر قلبٍ عددًا من المفاهيم العامَّة القرآنيَّة على أقلِّ تقديرٍ، لطالما رأينا حَفَظَةَ القرآنِ من الفقهاء والمفسِّرين يبرعون في عملهم، بحُسْنِ النَّظم والتَّوفيق، والإيتاء بالشَّواهد والنَّظائر، وجَلْبِ المخصِّصات المنفصلة، كلُّ ذلك منشؤه حفظ الكتاب العزيز عن ظهر قلبٍ لا غيره.
وإذا كان الكلام في القرآن كذلك، فهو في الحديث الشَّريف أشدُّ وألزم، لكثرته وسعته واختلاف أزمنته وظروفه، وتباين مراداته ولو بنحوٍ ظاهريٍّ، ومن المكابرة القولُ بعدم أهمِّيَّة الحفظ في هذه الميادين.
ولقد تحدَّثتُ في مقالةٍ سابقةٍ عن منشأ تولُّد الإشكال، وها نحن هنا نرجع له لتماميَّة هذا الحديث الذي نحن بصدده، فدِقَّة البحث وعمقُه وبيان ثغراته يحتاج -في ضمن ما يحتاج إليه- إلى سَعَةِ حفظٍ لما يرتبطُ بالعلم المشتغَل به، إمَّا بنحوٍ ظاهرٍ أو خفيّ.
قد تنبري عقليَّة المصادمة للقول بأولويَّة الفهم على الحفظ، وبالتَّالي فالحفظُ لا يصيِّرنا إلاَّ مقلّدين متحجّري العقل، ونحن هنا لا نملك الوقت للإجابة عنهم، فما كُتِبَ من شأنه أن يزيل هذا اللَّبس إن قُرئَ بعين العناية والإنصاف، على أنَّه لدينا الكثير الكثير مما يُراد حفظه من آياتٍ كريمةٍ وأحاديثَ شريفةٍ وخطبٍ عصماءَ بليغةٍ وشعرٍ حسنٍ وهَلُمَّ جَرًّا، فترك هؤلاء والتوجُّه لتلك أولى وألزم على العاقل.
أحمد نصيف البحرانيّ
7 شعبان 1439 للهجرة
…………………………………………………………………………..
[1] . لهذا الحديث الشَّريف نظائر متعدِّدة متقاربة الألفاظ بنحوٍ عام، وكذلك له أوجه تفسيرٍ متعدّدة وكثيرٌ منها صحيح يذكره الفقهاء والمحدّثون، أحدها هو حفظه حفظًا لفظيًّا عن ظهر قلبٍ كما هو شاهدنا في المقام.
[2] . يأتي لفظ (التعليم) بمعنى التَّحفيظ، ومنه ما في هاتين الرِّوايتَين، وهذا لا يمنع أن يراد بهما وجهًا آخر وهو التعليم بالمعنى المتعارف.