ليس المقروء مجرَّد حِبرٍ رُسِمَتْ به حروفٌ على ورق، بل هو حياةٌ أوجدتْها نفخَةُ الروحِ مِنْ قَلَمٍ يُحيه فِكرُ.
قال أبو عبد الله جعفر بن محمَّد الصادق (عليه السلام): “القلبُ يتَّكِلُ على الكِتابَةِ”، ممَّا يعني ضرورة تحويل الفِكرَة الأعم من الثابتة ومن القناعة، إلى وجود خارجي يرجع إليه الذهن ليحي فيه ما نقشه منه كتابةً، كما وينقله عن طريق نفس الكتابة إلى آخرين فتُستثارُ دفائِنُ عًقُولِهم، وسرعان ما يسلكون الطريق لمواكبة تلك العقول التي كَتَبَتْ، وقد سُئِلَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام): “من أعلم الناس؟
قال: مَنْ جَمَعَ عِلْمَ النَاسِ إلى عِلْمِهِ”. ومن الواضح أنَّ هذا الجمع لا يقتصر على المباشِر، بل هو ممتدٌّ في كلِّ كلمة منطوقة أو مكتوبة لكلِّ إنسان مُستمِعٍ أو قارِئ على مرِّ الزمن، وهذا ممَّا يستفادُ من قول الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضل بن عمر: “اكتُبْ وبث علمك في إخوانك، فإنْ مِتَّ فأورِث كُتُبَكَ بَنيكَ، فإنَّه يأتي على الناس زمانُ هَرجٍ، لا يأنسون فيه إلَّا بكتبهم”.
لم تكن هذه المعاني المهمَّة غائِبة عن ذوي الفِكر والنظر على مدى التاريخ البشري، ولذلك نرى غِنى المكتبة العالمية بأنواع وألوان من المصنَّفات على مستويات مختلفة، بل قد لا يكاد أصلٌ عِلميٌّ إلَّا وقد اتخذَ لِنَفسِهِ رفًّا على امتداد التاريخ المعرفي، ولكن بالرغم من كلِّ ذلك، تغيبُ كنوزٌ من العطاءات والنتاجات العلمية والمعرفية والفكرية مكسورةً تحت جبال من أتربة النسيان، لا لضعف في مادَّتها، ولا لمجهولية كتَّابها، ولكن بسبب عدم تعرُّضها لأقلام النقد والمناقشة، والتعليق والتحشية، وفُقِدَتْ بذلك جُهُودُ التحقيقِ وما يُقدِّم إليه من دراسات وما شابه!
وفي الجانب الآخر، قد نجد مؤلَّفات عادية لا تميُّز في قوامها الموضوعي، إلَّا أنَّها بارِزة إلى حدِّ أصبحت من فرائد المُصنَّفات؛ والسبب في ذلك حركةٌ فكرية تناولتها بالنقد والمناقشة والتعليق والتحشية؛ ربَّما لمصالح معينة، أو لقوَّة في مناقشة عَرَضَتْ عليها وأصبحتْ كأنَّها الأصل.
أضربُ مثالًا أراه جيِّدًا..
يعرِف القارئ الكريم، ولو الشيء البسيط، عن الفيلسوف الألماني (هيغل)، كما ويعرف كذلك عن كارل ماركس، وربَّما فيورباخ أيضًا، ولكنَّ الذي أريد الإشارة إليه هو أنَّ (هيغل) ما كان ليُعرَف كما هو معروف اليوم، لو لا اليسار في مدرسة (الشباب الهيغليين) ومنهم كارل ماركس وفيورباخ؛ وذاك لأنَّهم تناولوا فلسفته بالمناقشة والنقد وما شابه، فأنتجوا فِكرًا جديدًا ما كان ليكون لو لا (هيغل)، وما كان (هيغل) ليبرز لو لاهم!
أمَّا اليمين في نفس المدرسة فلا نكاد نسمع عنهم الكثير؛ والسبب محافظته على نظريات (هيغل) دون المساس بها!
مثالٌ آخر..
لماذا تنتعش الحوزات العلمية بكتب المحقِّق والعلَّامة الحلِّيين، والشهيدين العامليين -مثلًا-؟
لا شكَّ في قوَّة ومتانة نتاج تلك القامات العلمية الشامخة، ولكنَّ الذي لا يقل أهمية عن ذلك، بل أراه أكثر أهمية، هو الشروح والتعليقات المتكاثرة على كتبهم، وكذا عملهم هم أنفسهم في التعليق والشرح.
يعلم السادة العلماء وطلبةُ العلوم الدينية شدَّة الإغلاق في عبارة كتاب تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الطوسي، حتَّى قال بعضُ المحقِّقين: لو لم يتصدَّى العلَّامةُ الحلي لشرح التجريد، لما تمكَّن أحدٌ من شرحه!
نحن اليوم عندما ندرُسُ هذا الكتاب، لا ندرسه لمجرَّد عمقه الكلامي، ولكن لكونه من الكتب التي تفتح أمام الدارس آفاقًا واسعة للمناقشة والنقد والرد، والإبداع، وبذلك يبقى الكتاب الأصل بحيوية مناقشات ونقود وتعليقات تتبانى معه على طريق الإبداع العلمي والمعرفي.
لا تحتاج الكتب العلمية إلى نشر وترويج بقدر ما تحتاج العقول على مدى المستقبل من القرون إلى شرح تلك الكتب ونقدها على أسس علمية مؤدَّبة، كما وأنَّها لن تبقى طويلًا بغير أقلام التعليق والتنقيح والتحقيق.
هنا نقطة مهمَّة يستدعي المقام الإشارة إليها، وهي ضرورة النظر في غياب قلم المناقشة النقدية عن كتبٍ علميةٍ مهمَّة، وأخشى ما أخشاه أن يكون ذلك بسبب شُحٍّ فيها.. وفي الجانب الآخر ازدحام في حِبر المدح والتكثير!
فلنمدح، ولنُثْنِي.. ولكن ليس هذا ما يُبقي الإرث العلمي، بل تُبقِيهِ حِكمَةُ القلم الناقد نقدَ محبَّةٍ للعلم والمعرِفة.
وربَّما تعاظمت الحسرَةُ لو آل الحال إلى الخوف من نقد كتابٍ أو نظرية، فيُرمى الناقد بتُهم الجرأة أو قصد التسقيط! والمشكلة ليست في نفس التهمة فقط، بل في عود نتائجها على المُصنَّفِ والمُصَنِّفِ فتجُمدهما، وسرعان ما يكونان ذِكرَى لذاكر هنا أو هناك.
إن كنَّا نُحبُّ عالِمًا أو مُفَكِّرًا أو صاحِبَ نظريات ورُؤى، فعلينا أن نحفظه ونحفظ نتاجه العلمي والمعرفي في مصنَّفات نقدية، ومناقشات وتعليقات، ولن يكون وفاءٌ بغير ذلك.
كما وأنَّ تناول النتاج العلمي بالمناقشة والنقد والتعليق والتحشية، يوفر حماية قوية له من هجمات التسقيط ومحاولات المصادرة. فتأمَّل.
السيد محمَّد علي العلوي
27 جمادى الثانية 1439 هجرية