مجموعة من الولايات الأرضية تنتهي كلُّها إلى ولايتين، ولاية الله تعالى (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وولاية الشيطان (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ).
أمَّا من كانوا في ولاية الله سبحانه في الدنيا ففي الآخرة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأمَّا الآخرون فتنقطع بهم ولاية الشيطان يوم الحساب وجزاؤهم جهنم وساءت مصيرًا.
يتردَّدُ كثيرون بين الولايتين في الحياة الدنيا، فتارة مع الله تعالى، وأخرى مع الشيطان، وهكذا يستمر الصراع حتَّى تبلغ الروحُ التراقي (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)، عندها ينكشف الأمر، وحينها لا مفر، فقد جفَّتِ الأقلامُ ورُفِعتِ الصحفُ.
تلك ساعةٌ عظيمةٌ وموقِفٌ مهولٌ للإنسان بين يدي الله تعالى وأمامه كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، ولكن.. هنا ساعةٌ أيضًا ويا لها من ساعة ما لم نلتفت إليها ونعي عظيم خطرها وشدَّة ضلالها؛ إنَّها ساعة يطردُ فيها الله تعالى عبدًا من ولايته إلى ولاية الشيطان، وهذا الأخير لا يقبله!
قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): “من روى على مؤمنٍ رواية، يُريدُ بها شينَه وهدمَ مروته ليسقط من أعيُنِ الناس، أخرجه اللهُ من ولايتِه إلى ولايةِ الشيطان، فلا يقبله الشيطانُ”.
سلوك غاية في السوء، أن يسعى إنسانٌ لإسقاط مؤمن وشينه وهدم مروَّته، ولا أستغرب أن يطرده الله تعالى من ولايته، ولكنَّ العجب كل العجب أن لا يقبله الشيطان! فأيُّ جُرم ارتكبه هذا العبد إلى درجة أنَّ حتَّى الشيطانَ يرفضه ولا يقبله في ولايته؟
إنَّه بفعله ذاك يعرض نفسه لحرب من الله تعالى، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): “ليأذن بحرب منِّي من آذى عبدي المؤمن”.
عندما نتحدَّثُ عن المؤمن، فإنَّنا في الحقيقة نتحدَّث عن الأصل في مشروع بناء المجتمع السليم، وبالتالي يكون الإضرار به فردًا إضرارًا بالمجتمع، كما وأنَّ هذا المؤمن له كرامة خاصة عند الله تعالى؛ فالإيمان وإن كان بقعةً صغيرةً في قلب الإنسان، فهو خيط يصله بالله عزَّ وجلَّ (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)، ولذا فإنَّه لا يحق لأحدٍ إطلاق الأحكام بالضلال وعدم الإيمان على العباد ما لم يكن الإيمان منتَّفٍ عنه واقعًا، فقد قيل للإمام الكاظم (عليه السلام): “الرجل من مواليكم عاصٍ يشرب الخمر، ويرتكب الموبق من الذنب، نتبرأ منه؟
فقال (عليه السلام): تبرّؤوا من فعله ولا تتبرؤوا من خيره، وأبغضوا عمله.
فقال السائل: يسع لنا أن نقول: فاسقٌ فاجرٌ؟
فقال (عليه السلام): لا، الفاسق الفاجر الكافر الجاحد لنا ولأوليائنا، أبى الله أن يكون وليُّنا فاسقًا فاجرًا وإنْ عَمِلَ ما عَمِلَ، ولكنَّكم قولوا: فاسق العمل فاجر العمل مؤمن النفس، خبيث الفعل طيب الروح والبدن. لا والله لا يخرج وليُّنا من الدنيا إلَّا والله ورسوله ونحن عنه راضون، يحشره الله على ما فيه من الذنوب مبيّضًا وجهه، مستورةً عورته، آمنةً روعته، لا خوف عليه ولا حزن، وذلك أنَّه لا يخرج من الدنيا حتَّى يُصفّى من الذنوب، إمَّا بمصيبة في مال أو نفس أو ولد أو مرض، وأدنى ما يُصنع بوليِّنا أن يريه الله رؤيا مهولة، فيُصبِح حزينًا لِمَا رآه فيكون ذلك كفّارة له، أو خوفًا يرد عليه من أهل دولة الباطل، أو يشدّد عليه عند الموت، فيلقى اللهَ عزّ وجلّ طاهرًا من الذنوب، آمنة روعته بمحمَّد وأمير المؤمنين (صلى الله عليهما)، ثُمَّ يكون أمامه أحد الأمرين: رحمة الله الواسعة التي هي أوسع من أهل الأرض جميعًا، أو شفاعة محمَّد وأمير المؤمنين (عليهما السلام)، فعندها تصيبه رحمة الله الواسعة التي كان أحقّ بها وأهلها، وله إحسانها وفضلها”.
لا أدري لماذا يصرُّ البعض على تقمُّص دور الخليفة المعصوم بين الناس، فيضرب يمينًا وشمالًا في شين فلان وهدم مروة فلان وإسقاط ثالث من أعين الناس (قربة إلى الله تعالى)، وعندما يتصدَّى مؤمنٌ لنهيه عن هذا المنكر العظيم فإنَّه يتمادى في غيِّه (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).
نرى أيُّها الأحبة كيف أنَّ الدنيا قد تكالبت علينا بأشرارها يقرضون لحومنا وينخرون في عظامنا، ولا يليق بنا إعانتهم على أنفسنا كما هو الحال الذي نعيشه اليوم من تآكل داخلي سِمته تبادل الإساءات والتسقيطات التي قد لا يمارسها الأعداء في ما بينهم، فلنتَّق الله ونحافظ على قلوبنا سليمة صافية، ولا سبيل إلى ذلك ما لم نضخ شحنات متتابعة من حُزَم الأمر بمعروف المحبة والتآخي، والنهي عن الغيبة والنميمة والبهتان.
السيد محمد علي العلوي
16 يناير 2016 ميلادية