قامت فِكرةُ (ارتقاء) على مسؤوليةٍ أصيلةٍ يتحمَّلُها الأسوياء بشوق وطيب نفس، وهي مسؤولية التكاتف من أجل المسير بالإنسان نحو كمالاته الإنسانية خُلُقًا وقيمًا وعلمًا، وذلك انطلاقًا من مبدأ الخلافة المستفاد من قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، والخلافة وظيفة عظيمة خصَّ الله تعالى تمامها محمَّدًا وآله الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وهو قوله عزَّ وجلَّ (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، ثُمَّ إنَّه تبارك ذكره جعل ولايتهم طريقًا يسلكه المؤمنون درجة تتلوها أخرى نحو تحقيق ما يمكن من درجات السمو في مفهوم الخلافة (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
لم يترك اللهُ تعالى المؤمنين حيارى لا يهتدون سبيل الظفر بمثل هذه الكمالات العالية، فأجرى وهو الحكيم الخبير دستور الفلاح في أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، فكان النداء الأوَّل من رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) “إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، وهما الخليفتان من بعدي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يرِدا عليّ الحوض”، ثُمَّ جاء الثاني على لسان الإمام الرضا (عليه السلام)، فعَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ قَالَ:
“سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا.
فَقُلْتُ لَهُ: وَ كَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟
قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا.
قَالَ: قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَدْ رُوِيَ لَنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُقْبِلَ بِوُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ.
فَقَالَ (عليه السلام): صَدَقَ جَدِّي (عليه السلام)، أَ فَتَدْرِي مَنِ السُّفَهَاءُ؟
فَقُلْتُ لَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ.
قَالَ (عليه السلام): هُمْ قُصَّاصُ مُخَالِفِينَا، أَوَ تَدْرِي مَنِ الْعُلَمَاءُ.
فَقُلْتُ: لَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ.
فَقَالَ: هُمْ عُلَمَاءُ آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) الَّذِينَ فَرَضَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ وَأَوْجَبَ مَوَدَّتَهُمْ”.
بالرغم من هذا الحث الصريح على محورية التمسك بالثقلين الشريفين، إلَّا أنَّ ثمَّة أمر يسكن الناس ويمنعهم عن الاقتراب المعرفي من النصوص المعصومة قرآنيةً وعِتروية، كما وهناك شيئٌ من الضعف في الانفتاح الثقافي الفكري على الثقلين المقدَّسين، ومن هنا انقدحت في الذهن فكرةٌ ظهرت في (حديث وتعليق)..
اتفقنا في (ارتقاء) على انتخاب مجموعة من النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، والأساس في ذلك قربها من بعضٍ ما نعانيه من مشاكل ومُعضِلات، ثُمَّ أن نوجه دعوات لشخصيات مجتمعية من مختلف التوجهات والتيارات للتعليق عليها في سطور موجزة، لنقوم بعد ذلك بنشرها بين الناس، وكانت الغاية هي التخفيف من حالة الاغتراب الموضوعي المفاهيمي عن الثقلين المقدَّسين.
انطلق المشروع بالفعل بعد تجاوب واسع ممن وُجِّهت لهم دعوة المشاركة، ولكِنَّنا وقفنا على حالات دعتني لكتابة هذا المقال..
هناك من قال:
لا ينبغي لكم فتح المجال أمام عامَّة الناس للكتابة حول أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، فهي أحاديث غير عادية ويجب أن لا نسمح لغير المتخصصين بالخوض فيها.
وهناك من قال:
من الخطأ توجيه دعوة التعليق على الأحاديث لأصحاب الثقافات والتوجهات غير الإسلامية، كالليبرالية أو العلمانية أو ما شابه؛ إذ أنَّ هؤلاء سوف يقدِّمون للناس قراءات مغلوطة بحسب خلفياتهم الثقافية.
وهناك ممن وجهنا لهم الدعوة للتعليق أعتذر لعدم التخصص أو لتجنب الخلط بين توجهاته السياسية أو الحقوقية وبين ما له علاقة بالشأن الإسلامي.
بالرغم من احترامنا في (ارتقاء) للخيارات المحترمة، إلَّا أنَّنا لا نوافق على مثل هذه الأعذار، وهذا ما أحاول توضيحه في السطور التالية.
قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)..
لا شكَّ في أنَّ للتخصص أهمية بالغة، فالعارف باللغة العربية وعلومها –مثلًا- يفهم النصوص القرآنية والعِتروية بدقة تفوق غيره، وهكذا فإنَّ الإحاطة ببعض المسائل العلمية الخاصة يُوقِف المُحيط على معانٍ قد لا تظهر لغيره..
كُلُّ هذا صحيح لا خلاف فيه، ولكِنَّه لا يمنع من انفتاح الجميع على تلك النصوص، كما وأنَّه لا يدعو للتخوف من التفسيرات المختلفة لها؛ فالساحة اليوم مفتوحة أصلًا، والانجذاب العام أصبح للنظريات القادمة من الشرق والغرب، وأمَّا النصوص الواردة في القرآن الكريم أو عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) فمحصورة في مجتمعات معينة، وإن انتشرت فانتشارها يغلب عليه لون التزيين وما نحو ذلك!
كما وأنني أشير إلى أنَّ الأفهام بالنسبة للموضوع الواحد وإن اختلفت إلَّا أن اختلافها لا يعني التصادم بينها دائًما، فقد يكون لجسم واحد أكثر من وصف وأكثر من معنى وأكثر من وظيفة، فهذا يرى جماله في لونه، وآخر يراه ذا زوايا منتظمة، وثالث تمكن من التعرف على نوعية مادته من خلال شك الأصباغ من حيث اللمعان وما نحو ذلك..
إنَّها جهات مختلفة لجسم واحد، ولن يأبه أحدٌ بمن يراه سائلًا –مثلًا-!
لست أقصد إسقاط هذا المثال على فهم النصوص الشرعية، ولكِنَّني أريد تقريب الصورة فقط، ولنأخذ مثالًا من القرآن الكريم..
يقول الله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).
في تفسير هذا النص الشريف، يقول العلَّامة الطبائطبائي في الميزان: “و أمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة، و غير المحيطة و البحر العذب المدخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها فتجري العيون و الأنهار الكبيرة فتصب في البحر المالح، و لا يزالان يلتقيان، و بينهما حاجز و هو نفس المخازن الأرضية و المجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه و يبدله بحرا مالحا و تبطل بذلك الحياة، و يحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذبا فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء و غيره.
و لا يزال البحر المالح يمد البحر العذب بالأمطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الأرض و تدخرها المخازن الأرضية و البحر العذب يمد البحر المالح بالانصباب عليه.
فمعنى الآيتين – و الله أعلم – خلط البحرين العذب الفرات و الملح الأجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة و الملوحة فيختل نظام الحياة و البقاء”.
“و في الدر المنثور، أخرج ابنُ مردويه عن ابن عبَّاس: في قوله: “مرج البحرين يلتقيان” قال: علي وفاطمة “بينهما برزخ لا يبغيان” قال: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) “يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان” قال: الحسن والحسين”.
وهذا الحديث نقله الطباطبائي في نفس تفسيره (الميزان) تحت عنوان: التفسير الروائي، وهذا أمر طبيعي؛ فالتفسير الأوَّل له عمقه الخاص، وللثاني عمقه الخاص، بلا تصادم بين العمقين، وهذا الحال كحال الغواص وهو يقطع المسافات في عمق البحر، فيرى ما يرى على عمق عشرة أمتار، وتتغير المعالم على عمق خمسين مترًا، وهكذا كلَّما اتَّجه إلى القاع، والواقع أنَّه في جميع الأحوال غائص في طبيعة واحدة تحمِلُ وتَحتَمِلُ عدَّةَ رؤى ونقولات وتحليلات قد يكون أحدها أكمل من الآخر، ولا شك في أنَّ تتكامل مجتمعة.
أؤكد على أنَّ ما أقوله لا يعني فتحَ البابِ أمام كل رأي ونظر، فهناك منها ما لا ينبغي تمريره، ومنها ما لا يستحق الاحترام، ولكِنَّ الأصل هو الانفتاح على مختلف الآراء ووثقافاتها، ثُمَّ قياسها على موازين العلم والأدب، مقدَّمة للخروج برؤى جديدة تتراكم مع غيرها على طريق الرقي والتكامل.
عندما نضع النصوص المعصومة بين يدي الناس بمختلف ثقافاتهم، ونطلب منهم التعليق عليها، ففي ذلك توفير لفرصة انفتاح الجميع على بعضهم البعض، وتصحيح كل واحد لرؤاه من خلال متابعة الآخرين، كما وأنَّ القريبين من نصوص الثقلين مثل العلماء وطلبة العلوم الدينية يمكنهم التعرف أكثر على طبيعة تعاطي مختلف الثقافات مع كلام الله تعالى وحديث أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا يمكنهم من ممارسة التصحيح بموضوعية ودقة.
أرضنا خصبة جِدًّا، وتربتنا من أجود التُرب، وربَّما لن نحتاج إلى أكثر من حرثها وتقليبها لتتنفس فتبدع ألوان الشجر وصنوف الثمر..
السيد محمد علي العلوي
19 ديسمبر 2015 ميلادية