هكذا عهدناهم..
لا ينشغلون بفلان وعلَّان، ولا بالقيل والقال، فهم من هذه الجهة قد أحرزوا الدرجة الكاملة بلا كلام.
لاغيبة.. لا نميمة.. لا بهتان ولا قذف.
مدمنو المخدرات وانشغال كل واحد منهم بالبحث عن طريق الحصول على المبلغ المطلوب للحقنة المخدرة، وليكن بعدها ما يكون، ولذلك فإنَّ مدمن المخدرات لا وقت عنده لرذائل الغيبة والنميمة والقذف والبهتان وما نحوها..
إنه شخص مشغول بما هو أهم (مطلقًا).. مشغول بحقنة الهيروين يوفر قيمتها، وهذا عنده كل شيء..
مشغول بنفسه.. ولو أن كل واحد منَّا ينشغل بالأهم (مطلقًا) وهو التخلص وضمان التخلص من الموبقات والمعاصي والذنوب، لما وجد وقتًا لغيبة فلان واتهام علَّان والنمَّ على هذا عند ذاك!
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
ويقول عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
نحفظ هذه الآيات المباركة غيبًا، ولكن الكثير منَّا منشغل بالآخر عن نفسه، وليته ينشغل بتهذيبه والمساهمة في تنمية ملكات الخير فيه، ولكن المؤسف أنه يبذل جهودًا جبَّارة في تمزيق المجتمع بالخوض في سيرة زيد وعمر وبكر!
فلنطرح تساؤلًا حول منشأ أو مناشيء هذه السلوكيات ومثيلاتها..
بداية لا بد لنا من تقرير أمر غاية في الأهمية، وهو إن أخلاقيات الغيبة والنميمة والتفتين وما شابه لا تختص بمجتمع دون آخر، بل هي المُمَيَّزَة بقابليتها للتشكل مع توجهات مختلف المجتمعات؛ أما المتدين فيُبَرِّرها لنفسه من منطلقات دينية، وكذلك العلماني فهي عنده لحماية المصالح العامة، ومثلهما المُلحِد عندما يُبررها من منطلقات دين الاستهزاء بالآخر، وهو دينه الذي يدين به، فالقضية إذن لا علاقة لها بتوجه أو فكر أو غير ذلك.
طالعتُ بعضَ الدراسات في علم النفس حول الغيبة (backbiting) والنميمة (gossiping) بشكل عام، وعن النميمة بشكل خاص، وخرجتُ بخلاصة مُفادها: إن من يمارس النميمة السلبية يعاني شعورًا بالحقارة في عمقه النفسي، وكذلك من يغتاب غيره، وأما الذي يتحدث عن الآخرين بإيجابية (يسميها بعض علماء النفس بالنميمة الإيجابية) فيثني ويمدح ويبرز منهم جوانب الخير والفضائل فهو يستند في عمقه النفسي على مقومات حقيقية للثقة بالنفس.
وأكثر من ذلك فقد أثبتت الدرسات إن معدل الشعور بالحقارة يرتفع في الفرد كلما مارس الغيبة والنميمة، وعلى العكس من ذلك فإنه يقل لمصلحة ارتفاع معدل الثقة بالنفس كلما تحدث عن الآخرين بإيجابية وأريحية.
هذا كلام علمي، وبالإضافة إلى كونه علميًّا فهو منطقي جدًّا؛ فالنفس البشرية معملٌ لما يبرز على صفحة العقل ثقافة فسلوكًا، وكلما قَرُبَ الإنسان في قراراته وسلوكياته وأخلاقياته وثقافاته من إنسانيته، كلما برزت منه نفسٌ سويِّةٌ متزنة، وفي المقابل فإنَّ ممارسته لمثل الغيبة والنميمة وما شابه دليل مباشر على معاناته مع نفسٍ مدسوسة في الحقارة!
نحن في الواقع أمام مشكلة ضخمة، تمتد من الأسباب وأسباب الأسباب إلى نفس الحالة وآثارها ثم طُرُق معالجتها، وهذا يحتاج إلى بحث مفصل لا يحتمله مجرد مقال، ولذلك فإنني أطرح بعضَ جانبٍ من محور العلاج، ثم أترك تفصيل البحث لتتبع القارئ الكريم.
أعتقد بأن أيَّ عِلاجٍ فهو متعذر إلى حَدٍّ ما، مالم يعترف المريض بمرضه، ولذلك فإنَّ المشَّاءَ بالغيبة والنميمة لن يتوقف عن إحياء الحقارة في نفسه حتى يعترف بما فيه من مرض، وإلا فواقعه يشير إلى أنه مثل الذي يطلب الارتواء من ماء البحر، فهو كلما عصرته الحقارة توهم الفرار منها بإثارة تقيحات لسانه في آذان من يلتقيه، وكلما فعلها كلما غزرت في نفسه آفات المرض، فيعود إلى ما كان عليه..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ لِحُسن التواصل الاجتماعي ورفع همم الناس وتجنب السلبية والتحبيط دور عظيم في حل مشكلة الغيبة والنميمة في المجتمع، وهذا دواء يصعب عَمَلُهُ ما لم تتسق الجهود في منظومة إنسانية واحدة تمتد من الفرد نفسه إلى محيطاته المتعددة في الأسرة والعائلة والحي والوظيفة وعموم المجتمع.
ثم إنه من المهم جدًّا أن لا تلقى ألسِنَةُ الغيبة والنميمة آذانًا تسمعها، وما أروع موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من كتاب السعاية الذي وصله من أحدهم..
نظر إليه (عليه السلام) وقال: “يا هذا.. إن كنتَ صادقًا مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن أحسنت القيلة أقلناك.
فقال الرجل: بل تقيلني يا أمير المؤمنين”، والإقالة هي تجاوز العثرة، فالرجل طلب التجاوز والعفو من أمير المؤمنين (عليه السلام).
هكذا ينبغي أن تكون:
يا عزيزي..
إنْ سَمِعْتَ من يتحدث عني بسوء، صادقًا كان أم كاذبًا، فلا تنقل لي ما يقول ولا تدلني على حديثه مطلقًا، فمن صفات أهل الجنة صفاء القلوب وخلوها من الضغائن (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
فلنرجع إلى ثقافة (مدمن المخدرات) فننشغل بأنفسنا تهذيبًا وترويضًا (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) موصدين الأبواب في وجه كُلِّ (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).
السيد محمد علي العلوي
9 أغسطس 2015 ميلادية