بالعقل تُحَلَّل الأمور، وبالعقل تُحَل، ثم بالحكمة يتحرك للتصحيح والمعالجة، فإن أطاعه الإنسان نجح حتى لو أخطأ في بعض التقديرات، وإن خالفه فشل حتى لو أصاب إلى حين، فالعقل محور الإنسانية والحكمة تاجها، غير أنني أشير إلى ورود احتمالات معتبرة جدًا يبرز فيها تراجع العقل وبالتالي الحكمة في بعض المواطن التي تشتد فيها عاصفة العاطفة وتستقوي مغناطيسية الظروف وضغطها، وحينها يشعر الإنسان بهجمة ثقيلة تكبس قلبه وتضيق صدره حتى يعيش وكأنه الأبواب قد أوصدت والآفاق قد اصطلمت، وهذا في الواقع هو الموت في الحياة..
وفي حالات أخرى لا يتراجع العقل ولا تضعف الحكمة، ولكن الأمور تأبى أن تحل، وتبدو وكأنها تفرض دكتاتوريتها باستبداد لا يُناظر، وهنا أيضًا يهجم الضيق ليكبس على الصدور لا أبواب ولا آفاق..
هل من سبيل للخروج من مثل هذه التأزمات النفسية؟ هل من يد تمتد لتستنقذ القلوب من جبال تريد أن تهوي عليها لتهشم أضلاعها؟
تعالوا أيها الأحبة لنثق في حل أعطانا إياه الله سبحانه وتعالى.. إنه حل طالما غفلنا عنه ولا نزال.. هو في حقيقته من مفاتيح الحكمة ومن كمالات العقل..
تعالوا لنضع ثقة في (الأيام)..
إن للأيام علم خاص ولكنه وللأسف لم يدون بعد بالرغم من أنه شريف شامخ في مقامه، وكيف لا وهو العلم الذي تدور رحاه هناك في عالم التدبير.. (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)..
الأيام –أيها القارئ الكريم- تعني مجموعة الظروف وتغييراتها المسترة التابعة من جهة والمؤثرة من جهة أخرى في تغيرات أخرى تطرأ على النفوس والعقول، وهذه الدائرة الظرفية أو فلنسمها دائرة الأحداث لا بين فيها على الإطلاق، فما يجري على زيد في البحرين يؤثر بشكل ملحوظ أو غير ملحوظ في ظرف يفرض نفسه على نظير له في أستراليا، وهذا إن بدا غريبًا في نظر البعض إلا أنه حقيقة وواقع بلا شك على الإطلاق، والدليل عليه قطعي لا يحتمل الضد وإلا انهدم كل شيء وفسدت الأرض والسماء..
نعم، فالأثر متفاوت بين المتصل القريب والآخر البعيد، إلا أنه موجود حتمًا، وهناك مدبر لأمور الدنيا بدقائقها (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، وقال تبارك ذكره (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)..
إنه لربما تكون نسمة هواء أو قطرة غيث أو ورقة توت سببًا في تغيير معادلة بأكملها، ناهيك عن الأحداث والوقائع التي تتدخل مباشرة في إعادة صياغة شخصية أو حتى نظام دولة، ومخطئ جدًا من يسمي هذه (صدفًا)، فهي ليست كذلك على الإطلاق، بل هي صنيعة مدبر الأمور العالم بدقائقها، الذي قد ينقذ طفلًا من الغرق في نيل مصر بحدث في ماليزيا.. ولا عجب..
ليس الرهان على كون الإنسان هنا أو هناك.. ليست القضية في كونه حرًا أو معتقلًا، ولكنها في أنفاس لا زالت تحرك صدره وتدل عليها نبضات قلبه، وما دام الأمر هكذا فهو قادر على أن يصنع ما يستوعبه ظرفه، بل والعزم معقود على توسعته لصناعة ما هو اكبر وأرقى، ثم أن الحكمة تتوجه حينها لمراقبة الأيام وظروفها وكيف أنها تغيير الأحوال بواسطة تغيير هناك تنقله إلى هنا، ومن هنا تغيير تنقله إلى هناك، ولا شبهة أبدًا في أن هذا الإتقان في (التفاهم) مع الأيام يحتاج إلى صبر كبير وسعة صدر ورصانة ورزانة وطول بال..
هذا أمر يحتاج منَّا إلى عناية خاصة، فلا نبخلن على أنفسنا..
السيد محمد علي العلوي
2 جمادى الآخرة 1435 هجرية
2 إبريل 2014 ميلادية