تجاوز اليوم لعقلية الأمس

بواسطة Admin
0 تعليق

سواء كان في اتجاه الحسن أو كان في اتجاه القبح، فإن مظروف الزمن متغير كل لحظة مع تغير الظرف وهو الزمن المعروف بتصرمه، ولا لحظة إلا وهي جديدة بتمام ما فيها من موضوعات مطلقًا، وهذا بديهي جدًا؛ إذ أن تصرم الزمن مع بقاء الحدث يعني وقوعه في لا زمن ولو لآن دقيق وهذا محال، وعليه فإن الحياة كلها في تجدد آني، وتوقف التجدد يعني الفناء حتمًا.

وبعبارة أسهل: إن اللحظة الآنية بما تحمل من أحداث مطلقًا، هي غير سابقتها بما تحمل من أحداث مطلقًا، وإن كان ثمة تشابه أو تطابق بين ما نعيشه في هذه اللحظة وما عشناه في اللحظة السابقة فهو في الواقع إمتداد محفوظ ما لم يطرأ على موضوعه العلمي عامل يغيره.

إذا اتضحت هذه المقدمة فمن الضروري على العاقل التنبه إلى أن التخاذل أو الخمول عن التجدد الذهني بما يواكب تجدد الظرف الزمني بمظروفه (التاريخي) يعني وبشكل مباشر تيه في العدم، وهذا ما يفسر عجز بعض العقول عن التأقلم مع المتغيرات، ويظهر هذا العجز بوضوح مع مرور الزمن؛ إذ اتساع زاوية التغيير الحتمي مع بقاء العقل في وهم استصحاب الماضي والذي هو في الواقع محاولة استصحاب العدم، ولكننا نفهم بداهة أن الحدث الآني لا يمكن إلا أن يكون صنيعة عقل دَبَّرَ تبعته إرادةُ فعل ففعل، وإلا فجمود كل العقول عند لحظة يساوي الموت والفناء فلا لحظة لاحقة، ومن هنا يُعلم أنه إذا كانت هناك عقول عاجزة عن مواكبة التجدد الآني التكويني، فهناك عقول تصنع مظروف الزمن وما يمكن أن يؤثر فيه من عوامل مختلفة.

أذكر قصة شخصية..

دار بيني وبين رجل بريطاني حوار حول الشرق والغرب، وكان ذلك في حدود عام 1995م، وحينها كنت للتو أتعلم على أوليات العمل مع الحاسب الآلي، فقلت في ما قلت: إنني أشعر بشيء من الصغر عندما أجلس أمام شاشة الحاسب الآلي. (وبالفعل كنت أشعر بذلك)..!!

فقال: هناك فرق مهم بين الناس في الشرق والناس في الغرب، ففي الغرب صُنِعَ الحاسِبُ الآلي بعقلية المبتكر ثم الصانع، فكانت هناك مواكبة طبيعية بين العقل وما يُنْتج، ولذلك ففي الغرب لا يشعرون بما قد يشعر به البعض عندكم؛ فالناس في الشرق نُقِلُوا من حياة بدائية إلى حياة ملؤها صخب التكنلوجيا والسرعة دون واسطة في البين، وهذا هو السبب الرئيسي لما تشعر به.

في نظري أن كلامه صحيح جدًا، ولو أن المقام يسمح لأسهبت في مصاديقه ما استطعت، ولكن الغرض من كتابة هذه السطور محدد في الإشارة إلى حالة نعيشها في مجتمعاتنا، منشأها أعلى الهرم وانعكاسها على كله، وهذا تصور مبسط:

يعيش جمهور من المتدينين بعقليةٍ جوهرها بعيد تمامًا عن متغيرات الأيام، وأما ظاهرها فيحاول التأقلم من خلال ذاك الجوهر البعيد، وهذا محال قطعًا، ولذلك ترى عقلية اليوم تنظر إليهم نظرات لا ترضاها الكاريزما التي (وُضِعوا) فيها.

ويعيش جماعة اليسار (الشيوعيون سابقًا) بعقلية لينين مع محاولات قوية منهم إلى ممارسة (التقية) وتحريك غيرهم وقودًا لـ(بلشفية) مصدرة، وفي الواقع لن يتمكنوا من ذلك، فهم أيضًا أدوات بيد من (يصنع اللحظة).

ويعيش كثرة من السياسيين في زمن الحرب العالمية الثانية وما قبلها، فهم يعيشون رعبها ودمويتها وأساطيلها وما نحو ذلك، فترى جلَّ تحليلاتهم مستنسخة من واقع ما جرى قبل أكثر من سبعة عقود، والحال أن (صُنَّاع اللحظة) قد تحولوا من الإمبريالية بأداة القوة العسكرية المفردة إلى الإمبريالية بأداة التثقيف العالمي (العولمة) أولًا وبالذات، وإن جاء الدور على الأداة العسكرية فبالعرض والاضطرار.

إنه والحال هذه، فإن التمكن من ناصية التجدد الآني التكويني رهين التخلص من الجمود العقلي، والجد في العمل على تحمل مشقة الاكتفاء الذاتي على طريق صناعة الواقع، وإلا فالحصر في ثلاث:

إما الانسلاخ من الأصول مطلقًا والاندماج مع الآلة العالمية على ما تحب هي وترضى.

وإما الانعزال عن العالم في كهوف بعيدة، مع المسارعة إلى (الانتحار) عند أي تهديد بالهدم من (لحظة) تفرض نفسها.

وإما فالقبول بمشية (البطريق)، إذ أن مشية الغراب سوف تكون قريبًا (سبعية ملوكية).

 

السيد محمد علي العلوي

30 ربيع الثاني 1435 هجرية

2 مارس 2014 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.