كنت ولا زلت على قناعة قوية جدًا بأن السلامة الفكرية لأي مجتمع بشري فإنها تعتمد بشكل أساسي على مدى تمكن أفراده من المنطق ثقافة وسلوكًا، فكلما نمى الإنسان في ثقافته المنطقية كلما اقترب من إنسانيته واستقرت على الطريق الصحيح خياراته، وهذا بالطبع متوقف على قواعده العقائدية وثوابته الدينية التي توجه مسيره وفقًا للمنطق روحًا وحياة لا مجرد قوانين وصور.
هذا وأميل بقوة إلى اتهام الجهات التي تُحرم أو تمنع أو تقلل من شأن المنطق بالاستبداد والإصرار على استعباد الناس ثقافيًا وفكريًأ، فالإنسان يتميز عن غيره من المخلوقات بقوى ثلاث أصيلة، هي:
قوة التجريد، قوة التحليل، وقوة التعميم.
ولا يمكن لهذه القوى الثلاث أن تنمو إلا مع التنظيم الذهني تنظيمًا منطقيًا حيًا، وهذا لا توفره دراسة المنطق دراسة عادية كما هو المعروف في الجامعات والحوزات وما شابه، فالمنطق ثقافة وسلوكًا وحركة قانونية ملؤها الروح، ولذا فإن تعلم المنطق واتقان قوانينه دون ممارسته عمليًا في القراءة والتحليل وعموم التعاطيات الذهنية، مثله مثل من يتقن علوم اللغة العربية بنسبة 100% إلا أنه وفي كلامه يرفع الحال وينصب المبتدأ!!
إننا في مجتمعاتنا لم نألف التفكير المنطقي الصحيح يومًا، بل والحق أن الذي نعيشه هو الخوف منه والجزع من التحليل، واستغراب التجريد، بل وأكثر من ذلك أن التهمة بمثل الكفر والزندقة والانحراف متحفزة دائمًا لملاحقة من يخرج عن المألوف ويبدأ باستعمال عقله بما يرضي الله تعالى!! والعجيب أنه يرمى بالمقابل تمامًا، ثم يعزل ويُحول بين (عباقرة) المجتمع إلى منبوذ والاقتراب منه نجاسة تورث نار جهنم!
وعلى أية حال، فهذا كله يدعو إلى الاستغراب والتعجب من دولة مثل البحرين عندما يُقر في مدارسها منهج (الثقافة العددية)..
(الثقافة العددية) التي تعني أن يستقل الطالب بعقله في ابتكار طرق حل المعادلات الرياضية، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على قدرتي التجريد والتحليل ثم قدرة التعميم؛ فالطالب ينظر إلى المعادلة ويشتغل على تحليل الأرقام والرموز والمصطلحات ثم يوجد الطريقة التي تمكنه من حلها والانتهاء فيها إلى نتيجة صحيحة يتفق فيها مع غيره بغض النظر عن طريقة الحل.
إنها منهجية متقدمة جدًا، غير أنها عاجزة تمامًا عن الاستقرار إن لم تواكبها تغييرات شاملة في كل المناهج الدراسية الأخرى، فالطالب بالأمس وقبل (الثقافة العددية) كان يأخذ (واقعة أحد) –مثلًا- أخذ المسلمات وبما ينسجم مع تركيبته العقلية، ولكنه وبعد (الثقافة العددية) لن يرضى بالسكوت عن تفاصيل الواقعة قبل أن يحللها ويفهمها ويورد عليها، وهذا في الواقع ما تؤسس إليه منهجية (الثقافة العددية)، إلا أن يُحصر عقل الطالب في (الأرقام)، وهنا تأتي خطورة كبرى سوف نأكل قرصها المر إن لم ننتبه جيدًا..
إنني في الواقع أربط بين (الرؤية الاقتصادية لـ 2030) والثقافة العددية من جهة، وبين المستقبل السياسي للبحرين من جهة أخرى، وما أراه هو أن النية السياسية تتجه إلى حصر العقلية الجماهيرية في السوق والانتاج وربط كل شيء بالأرقام والحسابات المادية الملموسة، وهذا متوافق جدًا مع التأسيس لعلمانية معدلة سوف نعيشها قريبًا، وهو ما أراه وقد بينته في مقالات ومحاضرات سابقة.
في تصوري أن (الثقافة العددية) ضِدٌّ خاص لطريقة النظام السياسي القائم في البحرين، وإقرارها في المدارس اليوم يعطي دلالات واضحة بالنسبة لي، وهي أن التغيير قادم ولا كلام في هذا الأمر، والمشكلة إنما هي في صورته وكيفيته وموقعنا منه، وهو ما ركزت وأركز عليه دائمًا.
وكلمة أخيرة إلى الآباء والأمهات:
سوف يتقدم أبناؤكم عليكم قريبًا جدًا، ولن تكونوا في نظرهم إلى تراكمات من التخلف والرجعية والجمود، فالحقوا الحقوا فإنه إما تلحقوا وإلا لا..
إنها (الثقافة العددية) فلا تكن عندكم هينة..
السيد محمد علي العلوي
21 ربيع الثاني 1435 هجرية
21 فبراير 2014 ميلادية