أُقيمها على حقيقتين:
الأولى: أن الاختلافات الثقافية والفكرية والاجتهادية بين الناس سنة طبيعية جدًا، بل هي المنشأ الأصل لاستمرار الحركة الفكرية؛ فلو أنهم على اتفاق دائم لما كان الضد المحرك للتجديد والإبداع والابتكار.
الثانية: أن التنازع طريق حتمي إلى الفشل وذهاب الريح، فقد قال المولى تبارك ذكره (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
مقدمة وتمهيد:
ثمة ظاهرة في غاية الغرابة، والأغرب منها وجود من يبررها ويواصل مسيره على طريقها، إنها ظاهرة محاربة الاختلاف بالاختلاف، وتسويغ الاختلاف باللا اختلاف، والدعوة إلى الاختلاف في إطارٍ يحدده أقوى المختلفين.
فبالرغم من واقعية الاختلاف بين الناس وبالرغم من إصرار كل طرف على رأيه، فالعمل غالبًا على استغلال الاختلاف للقضاء عليه كلٌّ لصالحه ومصلحته، ولهذه الحالة مظهرات كثيرة لا أكاد أحصيها، منها تسخيف الآخر، ومنها اتهام الآخر، ومنها تخويف الناس من الآخر، وكلها تجتمع في تجذر الشعور بالوصاية على الناس الذين يراهم اللاعبون قاصرين جاهلين لا قدرة لهم على الاختيار!!
تنبهتْ الثقافة الشيعية باكرًا لهذه اللعبة الشيطانية الماكرة، فكان منها أن دأب أئمتها الأطهار (عليهم السلام) على نشر ثقافة حرية التعبير والاختيار مع التأكيد الكبير على الحرية الثقافية للناس، ومع عدم التخلي على الإطلاق عن العمل المستمر في إطار الدليل والبرهان خصوصًا من طرفهم شخوصًا وشيعة، والانتهاء دائمًا إلى فيصل (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، وقد قضى الله تعالى أن لا سيطرة ولا وكالة لأحد على أحد إلا بالقبول بها (وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ).
ومن أجلى مظاهر الحرية الفكرية في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فتح باب الاجتهاد بثقة عالية تجاوزت الكثير من الأزمنة والتواريخ، غير أن الفأس قد وقع في الرأس بيد المدارس الاجتهادية التي كان من المؤمل أن تكون المرتقى للشيعة نحو قيادة العالم ثقافيًا وفكريًا وحضاريًا، ولست في حاجة إلى سرد المصاديق، فهي ظاهرة حتى لغير الملتفت!
منشأ المشكلة:
يختلف اثنان، وهذا طبيعي جدًا.. يطرح كل واحد منهما رأيه، وهذا طبيعي أيضًا، بيد أن المشكلة تبدأ عندما يبحث كل واحد منهما عن جماهير تتبع رأيه، أو حتى بعيدًا عن الجماهيرية ومزالقها فهو يرى في قيام رأي يقابل رأيه هزيمة له أو تهديدًا لما (لا أفهم)، ومن الطبيعي أكثر أنه لا يقر بمثل هذا، فيذهب مباشرة إلى تفعيل عناوين الغيرة والخوف على الناس من الأفكار الضالة!!
هذه واحدة، والثانية أن الرأي يطرح حادًا سليطًا طاحنًا لغيره من الآراء مما يولد ردات فعل مضادة تأخذ طريقها انتقامًا لنفسها ممن سخفها واتهمها بشر التهم، وردات الفعل هذه تقوم في قبالها ردات فعل مضادة من الفاعل الأول حتى تتيه البوصلة ولا يدرى من الجاني وأيهما المظلوم، فالحال أنهما الآن واحد في الظلم والتعدي بل والطغيان والاستبداد من كل واحد منهما ضد الآخر.
يظهر أن النفس وطغواها هي منشأ المشكلة، وسبب انفلاتها هذا حالة من الضعف يعيشها العقل وتعانيه الحكمة، وهنا مُبرِزان:
الأول: الهجوم على الآخر وتتبع زلاته، بل وتحويل محاسنه إلى معايب ومثالب.
الثاني: اتقان الجدل وفنون الضرب من تحت الحزام وما شابه ذلك مما يحقق الغلبة على طريقة الأمويين والعباسيين.
في نظري أنه لا حل لهذه المشكلة (المُعَتَّقة) إلا بتجاوز المجتمع لظواهرها، والرهان هنا على الشباب خاصة وما يمتلكون من روح متطلعة إلى الخير محبة إلى صناعة مستقبل يتخطى عقليات التأزيم وثقافات (أنا والآخر).
وهنا إشارة:
لا ينبغي لنا أن نخشى الفكر طالما أننا نملك فكرًا، ومن الملح جدًا الانفتاح الثقافي الواسع، خصوصًا بعد الالتصاق الشديد بين المفردات الثقافية العالمية في شبكات الانترنت ووسائل التواصل المتقدمة، مما أحال التحذير من القراءة لفلان والاطلاع على فكر علَّان ضربًا من رفع الصوت في (خرابة) قد تخطتها أو لم تمر عليها أصلًا قوافل البشرية!
(واحد واثنان):
واحد: لابد من التوفر على أسس عقائدية عالية البرهان واضحة الاستدلال، فاليوم ليس كالأمس من حيث التحديات الثقافية الشرسة، والتي لا نصمد فيها طويلًا ما لم نقدم عقيدتنا بقوة النظر ودقة التأصيل، وهذا من أغنى ما تتمتع به مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
اثنان: يجب جدًا أن لا نخاف من الخطأ، وأن نستعد بقوة لتصحيح مساراتنا بكل شجاعة متى ما ثبت انحراف هنا وآخر هناك، أما الخطأ فهو الظاهرة الصحية الجميلة في حياة الإنسان؛ إذ أن الصح في قوته إنما هو وليد الخطأ وتشخيصه.
ويبقى الرهان على الوعي الشبابي الذي لن تستلم له طاحونة الاستبداد (الداخلي) بسهولة!!
السيد محمد علي العلوي
18 من المحرم 1435 هجرية
22 نوفمبر 2013 ميلادية