السماء بزرقتها وغيومها السابحة بينها وبين الأرض تحتضن في ساعة سعد واستبشار قوسا شمسيا تقاربت في رسمه مجموعة هادئة من الألوان فتشكل في الأفق منظر يستل ابتسامات الاسترخاء والطمئنينة من قلوب الناظرين بكل رفق وحنان..
إبداع علمي رائع ذاك القوس السمائي المتألق في الأفق.. نعم، هو متألق في الأفق وله أيضا تألق آخر في ذهن الحرية الفكرية للإنسان والتي أسست لها السماء مثلما أسست لقوس سمائها.
عندما خلق الله تعالى الإنسان جعل فيه مساحة النقص أصلا تكوينيا في قبال أصل آخر هو الفطرة التي تمثل جانب الخصوبة الفكرية فيه، فإما أن تتوسع فتنتشر في مساحة النقص فيكون التكامل، وإلا فالأخيرة تزداد في نقصها حتى تغزو الخصوبة الفكرية وتحولها إلى قاع صفصفا، وهذا هو المتحقق حتما إذا لم يستثمر الإنسان فهمه لسر جمال قوس السماء..
إن هذا القوس التي قفيت قصائد بمدحه والتغني بجماله ما كان ليكون كذلك لو لا امتزاج الألوان فيه وتداخلها مع بعضها البعض بهذه الصورة الإبداعية المتألقة، هكذا هو الإنسان الذي لا يمكن لإنسانيته أن تتكامل إلا إذا امتزج مع غيره في الفكر والتعاطي على نمط (لتعارفوا) وفي صورة (اضربوا الرأي بالرأي فيتولد عندكم الصواب)، هذا وبغض النظر عن ماهية الفكر الآخر وطبيعته، حيث إن ميزان ذلك موكل إلى الثوابت الراسخة والمتجذرة بالدليل القطعي والبرهان العلمي في نفس كل عاقل حصيف، وهذه الدائرة الإنسانية لا تشمل أولئك الذين نزلوا القناعات والأفكار منزلة الثوابت حيث إنهم ومن جهة علم أو لا علم سببوا كارثة اللون الواحد الذي يخنق المفهوم الإنساني خنقا..
لك -أيها القارئ الكريم- أن تأخذ جولة في أعمدة المقالات الصحفية الناشبة في صحفنا لترى المثال الأجلى لكابوس اللون الواحد وكأن حرية الرأي والتعبير (عند المحك) مقصورة فقط على اتجاه فكري واحد إلى درجة أن قراءة مقال لأي من الكتاب كافية عن قراءة باقي المقالات في مختلف الصحف.
إن هذه العصبية الرعناء والأحادية الحمقاء ولدت لنا أقلاما (قليلة أدب) بكل ما تحمل الكلمة من معنى، خصوصا مع ورع أقلام الفكر الآخر عن النزول إلى مستواها مما جعلها تأمن العقاب فاستلذت التقيحات على (التفاح)..
عندما تعتري (آدميا) حالة من الهيجان في نظره للرأي الآخر فهذا يعني انحرافا مباشرا في اتجاه العنف الفكري خصوصا حين تفتح أبواب الإعلام أمام أحد الرأيين وتغلق في وجه الآخر الذي يشعر بصوته مخنوقا ممنوعا فيتحول إلى التعبير بأشكال أخرى غالبا ما تكون منحرفة اندفاعية.
وليس حال الصوت الآخر (المسنود) بأفضل من المخنوق لأنه يعاني كثيرا من الجمود والدوران في عشرات من الحلقات المفرغة مسليا نفسه عن التفكير في التسافل الذي يسلك طريقه متسارعا نحو التشوهات المزمنة.
في وقت من الأوقات سوف نصل (هذا إن لم نكن قد وصلنا فعلا) إلى استحالة أن يتغير هؤلاء أو حتى يخففوا من حدة غباء الفكر الأحادي الذي يمسخون أنفسهم فيه، وحينها فقط سوف نبصر لمعان الفكر الرسالي الذي يطرح أتم الحلول وأروعها من خلال ذوبانه في بصائر القرآن الخالدة.
ترتكز الرسالية في فكرها على ركيزة التوعية، ولا تقبل بتجاوزها أبدا طالما أن الحجم المطلوب من الوعي لم يستوفى، حيث إن الحركة الثقافية الإيجابية في المجتمع ممتنعة في ظل عدم وجود الوعي الكافي لاستيعاب معاني الحياة وطبيعة إنسانها.
لذا فإن القراءة لأصحاب الغباء الأحادي ينبغي أن لا تكون قراءة انفعالية تفوت غرض الوصول إلى حالة من الوعي الفكري تؤهل إلى مشاريع نهضوية كبرى.
نفهم جيدا أن الإنسان عاجز عن التكامل بغير الانفتاح المتعقل على مختلف التوجهات الفكرية والتعاطي معها بكل احترام وأدب خصوصا في القضايا الجدلية، وهذا ليس من المطلقات، بل أنه مقيد بقيود مذكورة مفصلا في كتاب الله تعالى والسيرة المباركة للعترة الطاهرة، وهذه لا تزرق في الإنسان بحقنة ولا توضع في فمه بملعقة، فبعض القضايا تحتاج إلى سواعد الفكر لتكشف عنها، وهي منها. فمن أراد فليشمر ويبدأ الإبحار..
ومن هنا ينبغي أن يكون الإنطلاق بعيداً عن الاشتغال باقتلاع ما لا يقتلع إلا بتغيير أرضه..
السيد محمد علي العلوي
الخميس/ 14 شوال 1431هـ
23 سبتمبر 2010 م